وبدأ الامام في تصديه لهذه الظواهر ، فدرأ منها ما رآه يصطدم بتعاليم السماء ، وأقر منها الأفكار التي تحمل سمة التقاليد العريقة للحضارات بحيث يري مداليلها الموروثة تصب في روافد معرفية لا تتعارض مع مفاهيم الاسلام في رسالته الانسانية. وكل حرصه أن لا يهمش دور التراث الاسلامي في بناء الحياة العقلية الجديدة كما ستري هذا في الفصل القادم مفصلا.
وقد مهد الامام موسي بن جعفر (عليهالسلام) بذهنه الوقاد المتفجر ، بين يدي تلك الامدادات الداعية الي احياء التراث التشريعي في الاسلام ، ورفد القيم الدينية وتطويرها واغنائها بالعناصر النابعة من صميم العقيدة لا من خارجها ، وهو بذلك يوحد الفكر الانساني في ملامح متأصلة في خضم التيارات الكبري المتصارعة.
وكانت ثقافة الامام التكاملية ـ باعتباره قد أعد اعدادا خالصا ـ تفيض عبر صور مشرقة تحمل بين سماتها ألوان الأصالة والابداع ، فتشكل ألقا مذهلا في استيحاء الفكر الاسلامي الخالص من مصادره الأولي ، وهو يزخر برهافة عالية وحس مجرد.
وكانت نقطة الانطلاق في هذا الخط المحوري : التأكيد علي تلقي العلم الناهض ، والتحصن بسياجه المحكم ، ومن ثم الشروع بتحقيق الهدف المركزي الذي يسعي اليه.
ولتطبيق هذا المبدأ كانت دعوة الامام باديء ذي بدء تتمثل بتوجيهه النابض : «تعلم من العلم ما جهلت ، وعلم الجاهل ما علمت» (١).
وهذه الدعوة ترمي الي هدف ذي شقين رئيسيين في الارادة : تعلم ما تجهل ، وتعليم من يجهل ، وتلك هي النظرة الشمولية التي تدرأ الأنانية ، وتدعو الي السماح بانتشار العلم وضبطه ومدارسته وتعليمه.
_________________
(١) ابنشعبة / تحف العقول / ٢٩٤.