(وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ)
(وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) إن هذه الفقرة من الآية تحمل الحقيقة العقيدية الإيمانية في النظرة إلى مقام الله في وعي الإنسان المؤمن ، وموقعه منه ، فإن الله الذي يملك العبد بكل وجوده ، فله كل شيء فيه ، وليس له من ربه شيء ، ليس من شأنه أن يقدّم أيّ تفسير لأفعاله وأوامره ونواهيه أمام عباده ، بل إن الواجب عليهم أن يخضعوا له في ذلك كله ، فهم لا يملكون حرية الاختيار معه ، وهذا هو قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب : ٣٦] وقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) [الأنبياء : ٢٣] ، فهو الرب الخالق المهيمن على الكون كله والإنسان كله ، الحكيم في ما يقول ويفعل ، وهم المربوبون له ، فعليهم أن يسلّموا له كل أمورهم في الوعي انسجاما مع حركة هذا الخط في التكوين ، وهذا هو معنى الإيمان الحق في أصالة العقيدة في الذات والفكر والشعور.
وليس معنى ذلك أن لا يتطلبوا المعرفة في أسرار أفعاله وأقواله المتعلقة بهم وبالحياة من حولهم ، فإن الله قد وجههم ليعلموا علم ذلك ، ولكن من باب المعرفة التي تبحث عن وعي الكون والحياة في تقدير الله وتدبيره وقضائه وقدره ، لا من باب البحث عن أساس الشرعية في انسجامهم مع إرادات الله وأفعاله ، فهو الذي يفعل ما يريد ، لأن الوجود كله صنع إرادته ، فله أن يصنع فيه ما يشاء لتكون مشيئته هي الأساس ، بعيدا عن أية مشيئة أخرى ، وهذه هي العبودية الحقة في موقف العبد أمام ربه ، المتمثلة بالتسليم المطلق (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا)(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [هود : ١١٨] ، لأن حكمته اقتضت ذلك ، وهو أعلم بأسرارها ، ولأن إرادته فرضت ذلك.
* * *