مِنْ تُرابٍ) باعتبار خلق آدم (ع) أبيكم منه أو باعتبار خلق مادّتكم ممّا يحصل من التّراب ويغلب عليه التّراب (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) تتحرّكون وتدبّون وليس للأرض حركة ولا قدرة على الحركة.
اعلم ، انّ في خلق الإنسان الّذى له علم وارادة وقدرة واختيار واستعداد للتّصرّف في الملكوتين وتسخير أهلهما واستعداد للتّرقّى عن هذا العالم والحركة الى السّماء أو الى عوالم الأرواح من العناصر الّتى لا شعور لها ولا قدرة ولا اختيار مع كون الغالب في مادّته الماء والأرض اللّتين هما أنزلها آيات عديدة دالّة على علمه تعالى وقدرته وحكمته واحاطته وتدبيره واناطة أفعاله بغايات عديدة متقنة ، وتصريفه في عالم الأرواح وعالم الطّبع بما لا يمكن ادراك كيفيّة تصريفه وتمزيجه للقوى الرّوحانيّة مع القوى الارضيّة بحيث لا يمكن التّميز بينهما ، ويشتبه على كثير انّ القوى الرّوحانيّة ليست الّا القوى الجسمانيّة حتّى قالوا : انّ النّفس الانسانيّة جسم سار في البدن كسريان الماء في الورد (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يعنى من جنسكم (أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا) لتميلوا (إِلَيْها) فتسكنوا عن الحركة عنها فانّ الأزواج لو لم يكن من جنسكم لكنتم نافرين عنهنّ بعد قضاء حاجاتكم (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) ايّها الأزواج أو ايّها الاناسىّ (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) محبّة وتعطّفا ورقّة حتّى يكون تلك المحبّة سببا لاجتماعكم وبقاء اجتماعكم وتلك الرّقّة سببا لحراسة بعضكم بعضا وللاهتمام بخيره وإصلاحه (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من خلق الأزواج من أنفسكم وجعل المودّة والرّحمة بينكم أو في جعل المودّة والرّحمة بينكم أو في إخراج الحىّ من الميّت (الى آخر الآية) (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).
مراتب التّحقيق في العلم
اعلم ، انّ الإنسان بحسب افراده ذو عرض عريض وذو مراتب كثيرة وهكذا بحسب حالات كلّ فرد ذو عرض عريض ، فمنهم من يكون غافلا عن الله وآياته ولا كلام معهم ولا خطاب ولا آية لهم ولا دلالة وكأيّن من آية في السّماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون ، ومنهم من يتنبّه بانّ الدّنيا مقدّمة الآخرة وان ليس المقصود من الإنسان ان يتعيّش في الدّنيا كتعيّش الحيوان فيتفكّر في كيفيّة خلقته وخلقة سائر المواليد فيتنبّه من خلقتها بانّ لها مبدء قديرا عليما حكيما ، ومنهم من يستعدّ بهذا التّفكّر لافاضة الحقّ الاوّل تعالى عليه نور العلم ، فيفيض عليه نور العلم فانّ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء فيصير صاحب اولى مراتب العلم الّتى هي تكون سببا للتّحيّر والإنصات ، فانّ اولى مراتب العلم مفسّرة بالإنصات كما عن النّبىّ (ص) والتّحيّر يصير سببا لطلب من يعلّمه طريق الوصول الى دار العلم ومعدن النّور ، ومنهم من يصل الى عالم وقته بعد طلبه وينقاد له ويستمع منه وهذه المرتبة ثانية مراتب العلم كما في الخبر المأثور عن الرّسول (ص) ، ومنهم من يخرج من مقام الاستماع الّذى هو مقام التّقليد والعلم التّقليدىّ فيجد ذوق معلوماته أو يشاهد معلوماته أو يتحقّق بمعلوماته وهذه المراتب هي مراتب التّحقيق في العلم إذا علمت ذلك فاعلم ، انّ الآيات من قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (الى قوله) (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) منزّلة على مراتب افراد الإنسان ، وكلّما كان منزّلا على مراتب الإنسان بحسب افراده كان منزّلا على مراتبه بحسب أحوال شخص واحد ، وكلّما كان منزّلا على مرتبة دانية كان لصاحب المرتبة العالية أيضا لسعته واحاطته ، بخلاف ما كان لصاحب المرتبة العالية فانّه خاصّ به وليس لصاحب المرتبة الدّانية نصيب منه ، فقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (الى قوله) (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) لصاحب التّنبّه والتّفكّر يعنى ليس له غيره ، لا انّ صاحب العلم لا يدرك تلك الآيات ولا يلتذّ بها (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اى سماوات الطّبع وأرضه أو سماوات الأرواح وارضى الأشباح في العالم الكبير أو الصّغير (وَاخْتِلافُ