رأى موسى (ع) انّها صارت حيّة عظيمة تسعى خاف منها وأدبر يعدو من خوفه (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى) اى هيئتها الاولى (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ) الجناح اليد والعضد والإبط والجانب (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) اى من غير علّة برص وكان موسى (ع) شديد السّمّرة فأخرج يده من جيبه فأضاءت له الدّنيا (آيَةً أُخْرى) على صدق كلامي وانّه رحمانىّ وعلى صدق رسالتك عند من أريد ان أرسلك اليه (لِنُرِيَكَ) متعلّق بتخرج أو باضمم أو ظرف مستقرّ خبر مبتدء محذوف ، واللّام للتّبيين أو متعلّق باذهب والمعنى لنريك (مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ) يعنى المقصود الاهمّ من ارسالك اليه تكميلك في ذاتك حتّى تستعدّ لرؤية الكبرى من الآيات وهي مشاهدة نور الولاية العلويّة ، والكبرى امّا صفة للآيات والمفعول محذوف ومن آياتنا قائم مقامه ، أو من بنفسه مفعول ثان لنريك لكون من اسما أو لقيامه مقام المفعول لقوّة معنى البعضيّة فيه ، أو الكبرى مفعول ثان لنريك (إِنَّهُ طَغى) تجاوز عن الحدّ حتّى استكبر على خلفاء الله (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي).
اعلم ، انّه قد تكرّر قصّة موسى (ع) وقومه وقصّته مع فرعون باختلاف يسير في الألفاظ ووجه التّكرار انّ حكاية موسى (ع) من اوّل انعقاد نطفته الى آخر حياته كلّها عبرة ونصح ووعد ووعيد وإنذار وتبشير وتسلية للرّسول (ص) وللمؤمنين ، وتقوية لتوكّلهم وصبرهم على ما نالوه من الدّهر والأعداء ، وفيها آيات كثيرة دالّة على علمه تعالى وقدرته ولطفه ورحمته ونكاله وعقوبته ، وعلى قوّة قلب موسى (ع) وسعة صدره وزيادة تحمّله لما نال من قومه الّذين كانوا اشدّ حمقا من أمم جميع الأنبياء ، وشدّة صبره على مداراة الأعداء ليكون أسوة له (ص) وللمؤمنين في جميع ذلك ، وكفى في قوّة قلبه وسعة صدره في مقام المناجاة الّذى قلّما ينفكّ المناجى عن الغشي والانسلاخ من الكثرات ومن الشّعور بها بقاء التفاته الى الكثرات بحيث لم يكن يهمل من حقوقها شيئا ، فانّه بعد ما امره الله تعالى وشرّفه بالرّسالة استشعر بانّ الرّسول ينبغي ان يكون طليق اللّسان حتّى يمكنه الدّعوة والمجادلة اللّازمة للدّعوة ودفع الخصم وشبهاته وكان بلسانه لكنة لا يمكنه ذلك ، وينبغي ان يكون وسيع الصّدر حتّى يمكنه تحمّل متاعب الرّسالة ، ولا ينزعج بكلّ مكروه فانّ الرّسالة يلزمها المكاره الّتى يسلم أكثر النّاس منها ، وكان ضيّق الصّدر شديد الغضب سريع الانزعاج من كلّ مكروه ، وينبغي ان يكون محبوبا للخلق لا مبغوضا وكان (ع) مبغوضا لهم لقتله منهم نفسا ، ولذلك اعتذر واستعفى وقال كما في سورة الشّعراء : (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) ، ولعلّه كان الكلام والأمر والرّدع من الله والاعتذار والاستعفاء والمسئلة من موسى (ع) مكرّرا وكان استعفاؤه كما في سورة الشّعراء اوّل ما أجابه فلمّا ردعه الله عنه سأل منه تعالى شرح صدره كما حكى الله عنه فقال : إذا لم يكن بدّ من ارسالى فاشرح لي صدري (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) حتّى لا يردّونى ولا يبغضونى فيصعب علىّ دعائي لهم لانّى قتلت منهم نفسا ويقبلوا منّى (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي) الظّاهر ولساني الباطن (يَفْقَهُوا قَوْلِي) فانّه كان بلسانه لكنة من جمرة أدخلها فاه حين امتحان فرعون تميزه ورشده (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) قوّتى (وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) قرئ اشدد بضمّ الهمزة وأشركه بفتح الهمزة على صيغة الأمر وقرئ الاوّل بفتح الهمزة والثّانى بضمّها على صيغة المضارع المتكلّم فان كانا أمرين كانا تأكيدا لقوله : اجعل لي وزيرا ولذلك لم يأت بأداة الوصل ، وان كانا مضارعين كانا مجزومين في جواب الأمر ، وفي قوله : أشركه في أمري ، دلالة على انّه