قد مضى اوّل الآية في سورة النّساء مع تفصيل وتحقيق في بيانها وآخرها في سورة البقرة (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) يعنى عاقبة جملة الأمور ينتهى الى الله بمعنى انّ إيجاد الاملاك والأفلاك والعناصر ليس الّا لإيجاد المواليد ، وجميع الحركات الاراديّة والطّبيعيّة وسكناتها وجميع المواليد ليست الّا لإيجاد الإنسان وقد خلقه الله لأجل نفسه ، أو المعنى كلّ امر ينتهى عاقبته الى الله بمعنى انّ كلّ فعل غايته ينتهى الى امر ليس هو مقصودا بذاته بل هو مقصود لأجل الغير الى ان ينتهى الى غاية الغايات ونهاية النّهايات ، أو المعنى ينتهى عاقبة كلّ الأمور الى الله في النّظر واللّحاظ بمعنى انّ النّاظر إذا نظر الى امر وجده صادرا عن فاعل ، وإذا نظر الى ذلك الفاعل وجده مسخّرا لغيره في ذلك الفعل ، وهكذا الى ان ينتهى الى المسخّر الحقيقىّ الّذى هو الله فيكون فاعل كلّ امر هو الله لكنّه يكون في هذا اللّحاظ عاقبة جملة الفواعل (وَمَنْ كَفَرَ) يعنى بالولاية فانّ إسلام الوجه لله ليس الّا بالولاية فالكفر المقابل لاسلام الوجه لله لا يكون الّا بالكفر بالولاية بترك البيعة مع ولىّ الأمر أو إنكاره يعنى من كفر بعلىّ (ع) (فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) فانّه لا يضرّك ولا يضرّ عليّا (ع) ولا يفوتنا لانّه (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) لانّا عالمون بدقائق أعمالهم وخفاياها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) اى المكمونات الّتى في الصّدور من القصور والنّيّات أو من الاستعدادات الّتى لا شعور لصاحبيها بها فكيف بأعمالهم ودقائق أعمالهم وخفاياها (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان الله عالما بأعمالهم فما لنا نراهم متمتّعين بأنواع النّعم معافين من أنواع البلاء؟ ـ فقال نمتّعهم قليلا حتّى نأخذ بذلك التّمتّع ما أعطيناهم وما بقي فيهم من بقيّة الله حتّى يخلصوا للنّار (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لانّه لا جواب لهم سواه يعنى ان سألت مشركي مكّة والّا فالزّنادقة ومنكروا المبدء لا يقولون ذلك (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الّذى لا ينكره ولا ينكر خلقه لظهوره وظهور برهانه من أشرك به ، أو المعنى ان سألت الخلق طرّا من خلق السّماوات والأرض قالوا كلّا بلسان حالهم النّاطق تكوينا : انّ الله خالقهما وان لم يكن لهم شعور بهذا اللّسان ونطقه لكنّك لفتح مسامعك الاخرويّة لسماع الكلمات التّكوينيّة تسمع نطقهم بذلك وشهادتهم فقل الحمد لله على شهادة الكلّ بذلك وعلى فتح مسامعي الاخرويّة لتلك الشّهادة ، وفي الاخبار اشارة الى هذا المعنى فعن رسول الله (ص) كلّ مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بانّ الله عزوجل خالقه فذلك قول الله عزوجل ولئن سألتهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لا علم لهم بل ادراكاتهم ليست الّا جهالات ، أو لا يعلمون انّ ألسنتهم ناطقة بذلك لعدم شعورهم بألسنتهم التّكوينيّة الاستعداديّة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال السّماوات والأرض فما حال ما في السّموات والأرض؟ (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) استيناف في مقام التّعليل أو جواب لسؤال آخر عن حاله كأنّه قيل : اله حاجة إليها؟ فخلقها لحاجته؟ ـ فقال : انّ الله هو الغنىّ لا غنىّ سواه فلا يكون له جهة حاجة (الْحَمِيدُ) الّذى لا حميد سواه بمعنى انّ كلّ ما يتصوّر ان يكون له من صفات الكمال كان حاصلا له وكلّما ما يتصوّر ان يكون متّصفا به من سلوب النّقائص كان متّصفا به فلا يتصوّر جهة حاجة لمثل هذا (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) جملة حاليّة أو معطوفة لتأكيد هذا المعنى (مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قد مضى بيان هذه الآية في آخر سورة الكهف فلا نعيده (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) في مقام التّعليل يعنى انّه عزيز وعزّته مانعة من ان تعدّ مقاماته أو تنفد كلماته جملة مراتب الاعداد وجملة السّائلات الّتى يصحّ ان تكون مدادا ، والنّباتات الّتى يصحّ ان تكون أقلاما فانّه لو غلب شيء على مقاماته أو كلماته كانت متناهية وكلّما كان متناهيا كان فانيا غير غالب (حَكِيمٌ)