وفي أخر ولاية يزيد بن معاوية ، لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليهالسلام ، وأدخل فيها الحجر ، وجعل لها بابا شرقيا وبابا غربيا ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج ، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك ، كما قال مسلم بن الحجاج في صحيحه :
أخبرنا هناد بن السري ، أخبرنا ابن أبي زائدة ، أخبرنا ابن أبي سليمان عن عطاء ، قال : لما احترق البيت زمن يزيد بن معاوية حين غزاها أهل الشام ، فكان من أمره ما كان ، تركه ابن الزبير حتى قدم الناس الموسم ، يريد أن يحزبهم أو يجرئهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس ، أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها ، أو أصلح ما وهي منها؟ قال ابن عباس : فإني قد فرق (١) لي رأي فيها ، أرى أن تصلح ما وهي منها ، وتدع بيتا أسلم الناس عليه ، وأحجارا أسلم الناس عليها ، وبعث عليها صلىاللهعليهوسلم ، فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ، فكيف بيت ربكم عزوجل؟ إني مستخير ربي ثلاثا ، ثم عازم على أمري ، فلما مضت ثلاث ، أجمع رأيه على أن ينقضها فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء ، حتى صعده رجل فألقى منه حجارة ، فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض ، فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه ، وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول إن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر ، وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ، ولجعلت له بابا يدخل الناس منه ، وبابا يخرجون منه» قال : فأنا أجد ما أنفق ، ولست أخاف الناس ، قال : فزاد فيه خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أسا ، فنظر الناس إليه ، فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعا فلما زاد فيه استقصره فزاد في أوله عشرة أذرع وجعل له بابين : أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه. فلما قتل ابن الزبير ، كتب الحجاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أس نظر إليه العدول من أهل مكة ؛ فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحجر فرده إلى بنائه ، وسد الباب الذي فتحه ، فنقضه وأعاده إلى بنائه.
وقد رواه النسائي في سننه عن هناد ، عن يحيى بن أبي زائدة ، عن عبد الملك بن أبي سليمان ، عن عطاء ، عن ابن الزبير عن عائشة بالمرفوع منه ، ولم يذكر القصة وقد كانت السنة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ، لأنه هو الذي ودّه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ، ولكن خفيت هذه السنة على عبد الملك بن مروان ، ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن
__________________
(١) في الأصل «خرق». والمثبت عن صحيح مسلم. والمراد : قد ظهر لي أمر ورأي فيها.