كمال قدرته وعزته وملكه وسلطانه ، فإنّه خلق هذه المتضادات ، وقابل بعضها ببعض ، وجعلها محالّ تصرّفه وتدبيره ، فخلو الوجود عن بعضها بالكلية تعطيل لحكمته ، وكمال تصرفه وتدبير مملكته.
ومنها : ظهور آثار أسمائه المتضمنة لحلمه وعفوه ومغفرته وستره وتجاوزه عن حقه وعتقه لمن شاء من عبيده ، فلو لا خلق ما يكرهه من الأسباب المفضية إلى ظهور آثار هذه الأسماء لتعطلت هذه الحكم والفوائد ، وقد أشار النبيّ صلىاللهعليهوسلم إلى هذا بقوله : «لو لم تذنبوا ، لذهب الله بكم ، ولجاء بقوم يذنبون ، ويستغفرون ، فيغفر لهم».
ومنها : ظهور آثار أسماء الحكمة والخبرة ، فإنّه الحكيم الخبير ، الذي يضع الأشياء مواضعها ، وينزلها منازلها اللائقة بها ، فلا يضع الشيء في غير موضعه ، ولا ينزله في غير منزلته التي يقتضيها كمال علمه وحكمته وخبرته ، فهو أعلم حيث يجعل رسالاته ، وأعلم بمن يصلح لقبولها ، ويشكره على انتهائها إليه ، وأعلم بمن لا يصلح لذلك. فلو قدر عدم الأسباب المكروهة ، لتعطلت حكم كثيرة ، ولفاتت مصالح عديدة ، ولو عطلت تلك الأسباب لما فيها من الشر ، لتعطل الخير الذي هو أعظم من الشر الذي في تلك الأسباب ، وهذا كالشمس ، والمطر والرياح ، التي فيها من المصالح ما هو أضعاف أضعاف ما يحصل بها من الشر.
ومنها : حصول العبودية المتنوعة التي لو لا خلق إبليس لما حصلت ، فإن عبودية الجهاد من أحبّ أنواع العبودية إليه سبحانه ، ولو كان الناس كلهم مؤمنين ، لتعطلت هذه العبودية وتوابعها من الموالاة لله سبحانه وتعالى والمعاداة فيه ، وعبودية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعبودية الصبر ، ومخالفة الهوى ، وإيثار محاب الله تعالى ، وعبودية التوبة والاستغفار ، وعبودية الاستعاذة بالله أن يجيره من عدوه ، ويعصمه من كيده وأذاه. إلى غير ذلك من الحكم التي تعجز العقول عن إدراكها» (١).
__________________
(١) «شرح العقيدة الطحاوية» لابن أبي العز (٢ / ٣٢٧ ـ ٣٣٠).