والحقيقة أن هذا هو من قبيل المساجلة والجدل كما تلهم روح الآيات القرآنية وصيغتها. فالتكذيب القرآني لأساس الفكرة أي لاتخاذ الله أولادا قاطع وحاسم. غير أن العرب لما كانوا يكرهون ولادة البنات على ما حكته عنهم آيات عديدة في سياق مجادلة المشركين في هذه العقيدة وتسفيه عقولهم منها آيات سورة النحل هذه : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (٥٧) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (٥٨) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٥٩) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٠)) سلكت الآيات سبيل التأنيب في مساجلتهم تسفيها لعقولهم وسخرية من تناقضهم إذ يفضلون الذكر ويسيغون أن يكون لله غير المفضل.
وقد علّقنا بما فيه الكفاية على عقيدة الكفار في الملائكة وكونهم بنات الله وعبادتهم لهم ليكونوا شفعاء لديه في سياق تفسير سورة النجم فلا نرى ضرورة للإعادة. غير أننا ننبه إلى أن مضمون الآيات هنا يلهم أن العرب المشركين كانوا يرون أنهم على حقّ في عقيدتهم هذه وكانوا يجادلون عنها بقوة وعناد ، فتحدتهم الآيات بقوة مماثلة وشددت عليهم بالتسفيه والسخرية.
(وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٥٨) سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ (١٥٩)) [١٥٨ ـ ١٥٩]
في الآية الأولى إشارة تبكيتية إلى عقيدة من عقائد المشركين ، وهي زعمهم بوجود نسب بين الله والجنة. وردّ تكذيبي عليهم في صورة تقرير كون الجنة يعلمون أن قائلي هذا الزعم محضرون إلى عذاب الله يوم القيامة ، واحتوت الآية الثانية تعقيبا تنزيهيا عما يصفه المشركون ويزعمونه.
والمتبادر أن الآيتين غير منفصلتين عن السياق ، وقد جاءت تحكي عقيدة أخرى من عقائد المشركين بالإضافة إلى ما ذكرته الآيات السابقة عنهم.