فجملة «فقدره تقديرا» بيان لما اشتمل عليه هذا الخلق من إحسان وإتقان فهو ـ سبحانه ـ لم يكتف بمجرد إيجاد الشيء من العدم ، وإنما أوجده في تلك الصورة البديعة التي عبر عنها في آية أخرى بقوله : (... صُنْعَ اللَّه الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ...) (١).
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : في الخلق معنى التقدير. فما معنى قوله : (وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَه تَقْدِيراً).
قلت : معناه أنه أحدث كل شيء إحداثا مراعى فيه التقدير والتسوية ، فقدره وهيأه لما يصلح له. مثاله : أنه خلق الإنسان على هذا الشكل المقدر المسوى الذي تراه ، فقدره للتكاليف والمصالح المنوطة به في بابى الدين والدنيا ، وكذلك كل حيوان وجماد ، جاء به على الجبلة المستوية المقدرة بأمثلة الحكمة والتدبير .. (٢).
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك أن المشركين لم يفطنوا إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من تنظيم دقيق ، ومن صنع حكيم يدل على وحدانية اللَّه ـ تعالى ـ وقدرته ، بل إنهم ـ لانطماس بصائرهم ـ عبدوا مخلوقا مثلهم فقال ـ تعالى ـ : (واتَّخَذُوا مِنْ دُونِه آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وهُمْ يُخْلَقُونَ ...).
والضمير في قوله (واتَّخَذُوا ..) يعود على المشركين المفهوم من قوله (ولَمْ يَكُنْ لَه شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) أو من المقام.
أي : واتخذ هؤلاء المشركون معبودات باطلة يعبدونها من دون اللَّه ـ عز وجل ـ ، وهذه المعبودات لا تقدر على خلق شيء من الأشياء ، بل هي من مخلوقات اللَّه ـ تعالى ـ.
وعبر عن هذه الآية بضمير العقلاء في قوله (لا يَخْلُقُونَ) جريا على اعتقاد الكفار أنها تضر وتنفع ، أو لأن من بين من اتخذوهم آلهة بعض العقلاء كالمسيح والعزير والملائكة ..
وأيضا هؤلاء الذين اتخذهم المشركون آلهة : (لا يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ) فضلا عن غيرهم (ضَرًّا ولا نَفْعاً) فهم لا يملكون دفع الضر عن أنفسهم ، ولا جلب النفع لذواتهم (ولا يَمْلِكُونَ مَوْتاً ولا حَياةً ولا نُشُوراً) أي : ولا يقدرون على إماتة الأحياء. ولا على إحياء الموتى في الدنيا ، ولا على بعثهم ونشرهم في الآخرة.
فأنت ترى أن اللَّه ـ تعالى ـ قد وصف تلك الآلهة المزعومة بسبع صفات ، كل صفة منها كفيلة بسلب صفة الألوهية عنها ، فكيف وقد اجتمعت هذه الصفات السبع فيها؟!!.
__________________
(١) سورة النمل الآية ٨٨.
(٢) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦٣.