ثم حكى ـ سبحانه ـ مقولة أخرى من مقولاتهم الفاسدة فقال : (وقالُوا أَساطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْه بُكْرَةً وأَصِيلًا).
والأساطير : جمع أسطورة بمعنى أكذوبة واكتتبها : أي : أمر غيره بكتابتها له. أو جمعها من بطون كتب السابقين.
أي : أن هؤلاء الكافرين لم يكتفوا بقولهم السابق في شأن القرآن ، بل أضافوا إلى ذلك قولا آخر أشد شناعة وقبحا ، وهو زعمهم أن هذا القرآن أكاذيب الأولين وخرافاتهم ، أمر الرسول صلَّى اللَّه عليه وسلَّم غيره بكتابتها له ، وبجمعها من كتب السابقين (فَهِيَ) أي : هذه الأساطير (تُمْلى عَلَيْه) أي : تلقى عليه صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بعد اكتتابها ليحفظها ويقرأها على أصحابه (بُكْرَةً وأَصِيلًا) أي : في الصباح والمساء أي : تملى عليه خفية في الأوقات التي يكون الناس فيها نائمين أو غافلين عن رؤيتهم.
وقد أمر اللَّه ـ تعالى ـ رسوله صلَّى اللَّه عليه وسلَّم بالرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فقال : (قُلْ أَنْزَلَه الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ والأَرْضِ ...).
أي : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الذين زعموا أن القرآن أساطير الأولين ، وأنك افتريته من عند نفسك ، وأعانك على هذا الافتراء قوم آخرون ... قل لهم : كذبتم أشنع الكذب وأقبحه ، فأنتم أول من يعلم بأن هذا القرآن له من الحلاوة والطلاوة ، وله من حسن التأثير ما يجعله ـ باعتراف ـ زعمائكم ليس من كلام البشر وإنما الذي أنزله علىّ هو اللَّه ـ تعالى ـ الذي يعلم السر في السماوات والأرض ، أي : يعلم ما خفى فيهما ويعلم الأسرار جميعها فضلا عن الظواهر.
قال الآلوسي : «قل» لهم ردا عليهم وتحقيقا للحق : أنزله اللَّه ـ تعالى ـ الذي لا يعزب عن علمه شيء من الأشياء ، وأودع فيه فنون الحكم والأسرار على وجه بديع ، لا تحوم حوله الأفهام ، حيث أعجزكم قاطبة بفصاحته وبلاغته ، وأخبركم بمغيبات مستقبلة ، وأمور مكنونة ، لا يهتدى إليها ولا يوقف ـ إلا بتوفيق اللَّه ـ تعالى ـ العليم الخبير ـ عليها .. (١)
ثم ختم ـ سبحانه ـ الآية بما يفتح باب التوبة للتائبين ، وبما يحرضهم على الإيمان والطاعة للَّه رب العالمين فقال ـ تعالى ـ : (إِنَّه كانَ غَفُوراً رَحِيماً).
أي : إنه ـ سبحانه ـ واسع المغفرة والرحمة ، لمن ترك الكفر وعاد إلى الإيمان ، وترك العصيان وعاد إلى الطاعة.
__________________
(١) تفسير الآلوسي ج ١٨ ص ٢٣٦.