أى : يقولون عند ما يلقون فيها ، يا هلاكنا أقبل فهذا أوانك ، فإنك أرحم بنا مما نحن فيه.
ووصف ـ سبحانه ـ المكان الذي يلقون فيه بالضيق ، للإشارة إلى زيادة كربهم ، فإن ضيق المكان يعجزهم عن التفلت والتململ. وهنا يسمعون من يقول لهم على سبيل الزجر والسخرية المريرة ، (لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً). أى : اتركوا اليوم طلب الهلاك الواحد. واطلبوا هلاكا كثيرا لا غاية لكثرته ، ولا منتهى لنهايته.
قال صاحب الكشاف : قوله : (وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً) أى : أنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحدا ، وإنما هو ثبور كثير ، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منها ثبور لشدته وفظاعته ، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا غيرها ، فلا غاية لهلاكهم (١).
ثم أمر الله ـ تعالى ـ رسوله صلىاللهعليهوسلم أن يبين لهم ما أعده ـ سبحانه ـ لعباده المتقين ، فقال : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً ، لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ. كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً).
واسم الإشارة. ذلك يعود إلى ما ذكر من العذاب المهين لهم والاستفهام للتقريع والتهكم.
والعائد إلى الموصول محذوف ، أى : وعدها الله ـ تعالى ـ للمتقين ، وإضافته الجنة إلى الخلد للمدح وزيادة السرور للذين وعدهم الله ـ تعالى ـ بها.
أى : قل ـ أيها الرسول الكريم ـ لهؤلاء الكافرين ، أذلك العذاب المهين الذي أعد لكم خير ، أم جنة الخلد التي وعدها الله ـ تعالى ـ للمتقين ، والتي (كانَتْ لَهُمْ) بفضل الله وكرمه (جَزاءً) على أعمالهم الصالحة (وَمَصِيراً) طيبا يصيرون إليه.
(لَهُمْ فِيها) في تلك الجنة (ما يَشاؤُنَ) أى : ما يشاءونه من خيرات وملذات حالة كونهم (خالِدِينَ) فيها خلودا أبديا.
(كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً) أى : كان ذلك العطاء الكريم الذي تفضلنا به على عبادنا المتقين ووعدناهم به ، من حقهم أن يسألونا تحقيقه لعظمه وسمو منزلته ، كما قال ـ تعالى ـ حكاية عنهم في آية أخرى (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ ، إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٢).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٦٧.
(٢) سورة آل عمران الآية ١٩٤.