ولا علم عندهم بحكمته ، ولذا رد سبحانه عليهم بقوله : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) والكاف بمعنى مثل ، والجار والمجرور نعت لمصدر محذوف مع عامله. وقوله : (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) تعليل للعامل المحذوف.
فالجملة الكريمة استئناف مسوق للرد عليهم ، ولبيان بعض الحكم في نزول القرآن مفرقا.
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) معطوف على الفعل المحذوف. والتنكير في «ترتيلا» للتفخيم والتعظيم. وأصل الترتيل ، عدم التلاصق. يقال ، ثغر مرتل. أى مفلج الأسنان غير متلاصقها.
أى : نزلناه مفرقا ، ورتلناه ترتيلا بديعا ، بأن قرأناه عليك بلسان جبريل شيئا فشيئا ، على تؤدة وتمهل ، وجعلنا بعضه ينزل في إثر بعض.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : وقوله «كذلك» جواب لهم ، أى : كذلك أنزلناه مفرقا ، والحكمة فيه : أن نقوى بتفريقه فؤادك حتى تعيه وتحفظه ..
فإن قلت : ذلك في كذلك يجب أن يكون إشارة إلى شيء تقدمه ، والذي تقدمه هو إنزاله جملة واحدة فكيف فسرته بكذلك أنزلناه مفرقا؟.
قلت : لأن قولهم : لو لا أنزل عليه القرآن جملة ، معناه : لما ذا أنزل مفرقا ، والدليل على فساد هذا الاعتراض أنهم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه .. فكأنهم قدروا على تفاريقه حتى يقدروا على جملته (١).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) أى : سر أيها الرسول الكريم في طريقك ، وبلغ ما أنزلناه إليك ، ولا تلتفت إلى مقترحات المشركين وأباطيلهم ، فإنهم لا يأتونك بمثل ، أى : بكلام عجيب هو مثل في التهافت والفساد للطعن في نبوتك «إلا جئناك» في مقابلته بالجواب «الحق» الثابت الصادق الذي يزهق باطلهم ، وبما هو أحسن تفسيرا وبيانا من مثلهم وشبهاتهم.
والاستثناء مفرغ من عموم الأحوال. أى : ولا يأتونك في حال من الأحوال بمثل للطعن في نبوتك ، إلا جئناك وسلحناك بما يزهق أمثالهم وشبههم ، فسر في طريقك ـ أيها الرسول الكريم ـ فإنك على الحق المبين.
فأنت ترى أن هذه الآيات الكريمة من أعظم الآيات لتشجيع النبي صلىاللهعليهوسلم على تبليغ دعوته ، بدون اكتراث بما يثيره المشركون حوله من شبهات.
ثم بين ـ سبحانه ـ سوء مصيرهم بسبب أقوالهم الباطلة ، وأفعالهم القبيحة ، فقال
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٢٧٦.