القرآن مادة لسخريتهم وتهكمهم ، من الهجر ـ بضم الهاء ـ بمعنى الهذيان والقول الباطل ، ومنه قوله ـ تعالى ـ : (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ) (١).
وقد اشتملت هذه الآية الكريمة على التخويف العظيم لمن يهجر القرآن الكريم. فلم يحفظه أو لم يحفظ شيئا منه ، ولم يعمل بما فيه من حلال وحرام ، وأوامر ونواه ..
قال بعض العلماء هجر القرآن أنواع : أحدها : هجر سماعه وقراءته. وثانيها : هجر العمل به والوقوف عند حلاله وحرامه .. وثالثها : هجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه .. ورابعها : هجر تدبره وتفهمه .. وكل هذا دخل في هذه الآية ، وإن كان بعض الهجر أهون من بعض (٢).
وقوله ـ سبحانه ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ.). تسلية للرسول صلىاللهعليهوسلم عما أصابه من قومه ، وتصريح بأن ما أصابه قد أصاب الرسل من قبله ، والبلية إذا عمت هانت. أى : كما جعلنا قومك ـ أيها الرسول الكريم ـ يعادونك ويكذبونك ، جعلنا لكل نبي سابق عليك عدوا من المجرمين ، فاصبر ـ أيها الرسول ـ كما صبر إخوانك السابقون.
وشبيه بهذه الآية قوله ـ تعالى ـ : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ، وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (٣).
ثم شفع ـ سبحانه ـ هذه التسلية بوعد كريم منه ـ عزوجل ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).
أى : وكفى ربك ـ أيها الرسول الكريم ـ هاديا يهدى عباده إلى ما تقتضيه حكمته ومشيئته ، وكفى به ـ سبحانه ـ نصيرا لمن يريد أن ينصره على كل من عاداه.
ثم حكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك ـ وللمرة الخامسة ـ بعض شبهاتهم وأباطيلهم فقال : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً ...).
أى : وقال الذين كفروا بالحق الذي جاءهم به الرسول صلىاللهعليهوسلم : هلا نزل هذا القرآن على محمد صلىاللهعليهوسلم جملة واحدة ، دون أن ينزل مفرقا كما نراه ونسمعه.
وقولهم هذا دليل على سوء أدبهم فقد طلبوا ما لا يعنيهم. واقترحوا شيئا لا مدخل لهم فيه ،
__________________
(١) سورة المؤمنون الآية ٦٧.
(٢) تفسير القاسمى ج ١٩ ص ٤٥٧٥ ، نقلا عن بدائع الفوائد للإمام ابن القيم.
(٣) سورة الأنعام الآية ١١٢.