ثم رد ـ سبحانه ـ على تطاولهم وجهلهم بما يدل على عظيم قدرته ـ عزوجل ـ وعلى جلال شأنه ـ تعالى ـ فقال : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً).
والبروج : جمع برج ، وهي في اللغة : القصور العالية الشامخة ، ويدل لذلك قوله ـ تعالى ـ : (أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ) (١).
والمراد بها هنا : المنازل الخاصة بالكواكب السيارة ، ومداراتها الفلكية الهائلة ، وعددها اثنا عشر منزلا ، هي : الحمل ، والثور ، والجوزاء ، والسرطان ، والأسد ، والسنبلة ، والميزان ، والعقرب ، والقوس ، والجدى ، والدلو ، والحوت.
وسميت بالبروج ، لأنها بالنسبة لهذه الكواكب كالمنازل لساكنيها.
والسراج : الشمس ، كما قال ـ تعالى ـ : (أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً* وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ، وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً) (٢).
أى : جل شأن الله ـ تعالى ـ وتكاثرت آلاؤه ونعمه ، فهو ـ سبحانه ـ الذي جعل في السماء «بروجا» أى : منازل للكواكب السيارة و «وجعل فيها» أى : في السماء «سراجا» وهو الشمس «وجعل فيها» ـ أيضا ـ «قمرا منيرا» أى : قمرا يسطع نوره على الأرض المظلمة ، فيبعث فيها النور الهادي اللطيف.
ثم تنتقل السورة الكريمة الى الحديث عن نعمة أخرى فتقول : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً).
والخلفة. كل شيء يجيء بعد شيء آخر غيره. ومنه خلفة النبات. أى : الورق الذي يخرج منه بعد أن تساقط الورق السابق عليه.
أى : وهو ـ سبحانه ـ الذي جعل الليل والنهار متعاقبين. بحيث يخلف كل واحد منهما الآخر بنظام دقيق ، ليكونا مناسبين «لمن أراد أن يذكر». أى : يتعظ ويعتبر ويتذكر أن الله ـ تعالى ـ لم يجعلهما على هذه الهيئة عبثا فيتدارك ما فاته من تقصير وتفريط في حقوق الله ـ عزوجل ـ «أو أراد شكورا».
أى : وجعلهما كذلك لمن أراد أن يزداد من شكر الله على نعمه التي لا تحصى ، والتي من
__________________
(١) سورة النساء الآية ٧٨.
(٢) سورة نوح الآيتان ١٥ ، ١٦.