ولذا جاء التعقيب السريع بما فعله موسى ـ عليهالسلام ـ فقال ـ تعالى ـ : (فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أى : تبتلع بسرعة ، وتأخذ بقسوة (ما يَأْفِكُونَ) أى : ما فعلوه وما يفعلونه من السحر ، الذي يقلبون به حقائق الأشياء عن طريق التمويه والتخييل. ورأى السحرة بأعينهم ومعهم الحشود من خلفهم ، رأوا ما أجراه الله ـ تعالى ـ على يد موسى ـ عليهالسلام ـ رأوا كل ذلك فذهلوا وبهروا وأيقنوا أن ما جاء به موسى ليس سحرا وإنما هو شيء آخر فوق طاقة البشر ، ولو كان سحرا لعرفوه فهم رجاله ، وأيضا لو كان سحرا لبقيت حبالهم وعصيهم على الأرض ، ولكنها ابتلعتها عصا موسى ـ عليهالسلام ـ عندئذ لم يتمالكوا أنفسهم ، بل فعلوا ما حكاه القرآن عنهم في قوله ـ سبحانه ـ : (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) أى : فخروا ساجدين على وجوههم بدون تردد ، وهم يقولون : (آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ).
وهكذا بعد أن شاهد السحرة الحق يتلألأ أمام أبصارهم. لم يملكوا إلا أن ينطقوا به على رءوس الأشهاد ، وتحولوا من قوم يلتمسون الأجر من فرعون قائلين : (أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) إلى قوم آخرين هجروا الدنيا. ومغانمها ، واستهانوا بالتهديد والوعيد ، ونطقوا بكلمة الحق في وجه من كانوا يقسمون بعزته إنا لنحن الغالبون.
وصدق رسول الله صلىاللهعليهوسلم حيث يقول في حديثه الذي رواه الشيخان : «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن ، إن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه».
ثم يحكى ـ سبحانه ـ بعد ذلك موقف فرعون وقد رأى ما حطمه وزلزلة فقال ـ تعالى ـ : (قالَ) أى فرعون للسحرة (آمَنْتُمْ لَهُ) أى : لموسى (قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ) بالإيمان به ..
(إِنَّهُ) أى : موسى ـ عليهالسلام ـ (لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ) أى : فأنتم متواطئون معه على هذه اللعبة (فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) ما أنزله بكم من عذاب.
(لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ) أى : لأقطعن من كل واحد منكم يده اليمنى مع رجله اليسرى. (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) أى : في جذوع النخل ـ كما جاء في آية أخرى ـ والمتأمل في قول فرعون ـ كما حكاه القرآن عنه يرى فيه الطغيان والكفر ، فهو يستنكر على السحرة إيمانهم بدون إذن.
ويرى فيه الكذب الباطل الذي قصد من ورائه تشكيك قومه في صدق موسى وفي نبوته فهو يقول لهم : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ).
ويرى فيه بعد هذا التلبيس على قومه ، التهديد الغليظ ـ شأن الطغاة في كل زمان