ونجد سليمان ـ عليهالسلام ـ لا يؤاخذه على هذا القول ، بل يضع قوله موضع التحقيق والاختبار فيقول له : (سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ).
وهكذا الأمم العاقلة الرشيدة ، لا يهان فيها الصغير ، ولا يظلم فيها الكبير.
٧ ـ أن حكمة الله ـ تعالى ـ قد اقتضت أن تتألف الأمم من حاكمين ومحكومين ، وأن كل فريق له حقوق وعليه واجبات ، وأن الأمم لا تصلح بدون حاكم يحكمها ويرعى شئونها ، ويحق الحق ويبطل الباطل.
قال القرطبي عند تفسيره لقوله ـ تعالى ـ : (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) : في الآية دليل على اتخاذ الإمام والحكام وزعة ـ أى ولاة ، أو قضاة ـ يكفون الناس ويمنعونهم من تطاول بعضهم على بعض ...
قال ابن عون : سمعت الحسن يقول وهو في مجلس قضائه : والله ما يصلح هؤلاء الناس إلا وزعة (١).
ومن الأقوال الحكيمة لأمير المؤمنين عثمان بن عفان ـ رضى الله عنه ـ «إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن».
٨ ـ أن الحاكم العاقل هو الذي يستشير من هو أهل للاستشارة في الأمور التي تهم الأمة.
فها هي ذي ملكة سبأ عند ما جاءها كتاب سليمان ـ عليهالسلام ـ جمعت وجوه قومها ، وقالت لهم ـ كما حكى القرآن عنها : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ ...).
قال القرطبي : وفي هذه الآية دليل على صحة المشاورة .. وقد قال الله ـ تعالى ـ لنبيه صلىاللهعليهوسلم (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وقد مدح الله الفضلاء بقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) والمشاورة من الأمر القديم وخاصة في الحرب ، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس من دون الله قالت : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ..). لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم. وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها ، وكان في مشاورتهم وأخذ رأيهم عون على ما تريده من شوكتهم ، وشدة مدافعتهم ، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم : (نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ.). (٢).
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٦٨.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ١٩٤.