لا يخرج كلانا عنه لا أنا عما اشترطت على ولا أنت عما اشترطت على نفسك .. ثم قال : أى أجل من الأجلين قضيت ـ أطولهما أو أقصرهما ـ (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) أى : فلا يعتدى على في طلب الزيادة عليه. فإن قلت : تصور العدوان إنما هو في أحد الأجلين الذي هو الأقصر ، وهو المطالبة بتتمة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟
قلت : معناه ، كما أنى إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شك فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثماني. أراد بذلك تقرير أمر الخيار ، وأنه ثابت مستقر ، وأن الأجلين على السواء إما هذا وإما هذا من غير تفاوت بينهما في القضاء ، وأما التتمة فهي موكولة إلى رأيى. إن شئت أتيت بها ، وإلا لم أجبر عليها .. (١).
والمقصود بقوله : (وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) توثيق العهد وتأكيده ، وأنه لا سبيل لواحد منهما على الخروج عنه أصلا.
أى : والله ـ تعالى ـ شهيد ووكيل ورقيب على ما اتفقنا عليه ، وتعاهدنا على تنفيذه ، وكفى بشهادته ـ سبحانه ـ شهادة.
وقد ساق الإمام ابن كثير جملة من الآثار التي تدل على أن موسى ـ عليهالسلام ـ قد قضى أطول الأجلين. ومن ذلك ما جاء عن ابن عباس أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : سألت جبريل : أى الأجلين قضى موسى؟ قال : «أكملهما وأتمهما ، وفي رواية : أبرهما وأوفاهما» (٢).
هذا ، والمتأمل في هذه الآيات الكريمة ، يرى فيها بجلاء ووضوح ، ما جبل عليه موسى ـ عليهالسلام ـ من صبر على بأساء الحياة وضرائها ومن همة عالية تحمله في كل موطن على إعانة المحتاج ، ومن طبيعة إيجابية تجعله دائما لا يقف أمام مالا يرضيه مكتوف اليدين ، ومن عاطفة رقيقة تجعله في كل الأوقات دائم التذكر لخالقه ، كثير التضرع إليه بالدعاء.
كما يرى فيها الفطرة السوية ، والصدق مع النفس ، والحياء ، والعفاف ، والوضوح ، والبعد عن التكلف والالتواء ، كل ذلك متمثل في قصة هاتين المرأتين اللتين سقى لهما موسى غنمهما ، واللتين جاءته إحداهما تمشى على استحياء ، ثم قالت لأبيها : يا أبت استأجره.
كما يرى فيها ما كان يتحلى به ذلك الشيخ الكبير من عقل راجح ، ومن قول طيب حكيم ، يدخل الأمان والاطمئنان على قلب الخائف ، ومن أبوة حانية رشيدة ، تستجيب
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٠٦.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٦ ص ٢٤٠.