قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فرق بين الاستئنافين (إِنَّهُ) و (إِنَّا)؟
قلت : الأول تعليل للإيمان به ، لأن كونه حقا من الله حقيق بأن يؤمن به. والثاني : بيان لقوله : (آمَنَّا بِهِ) لأنه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أن إيمانهم به متقادم ، لأن آباءهم القدماء قرءوا في الكتب الأول ذكره ؛ وأبناءهم من بعدهم ، (١).
ثم بين ـ سبحانه ـ ما أعده لهؤلاء الأخيار من ثواب فقال : (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا).
أى : أولئك الموصوفون بتلك الصفات الكريمة يؤتون أجرهم مضاعفا بسبب صبرهم على مغالبة شهواتهم ، وبسبب صبرهم على ما يستلزمه اتباع الحق من تكاليف.
قال القرطبي : قوله ـ تعالى ـ (أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) ثبت في صحيح مسلم عن أبى موسى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ، وأدرك النبي صلىاللهعليهوسلم فآمن به واتبعه وصدقه فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله ـ عزوجل ـ وحق سيده فله أجران ، ورجل كانت له أمة فغذاها فأحسن تغذيتها ، ثم أدبها فأحسن تأديبها ، ثم أعتقها وتزوجها ، فله أجران».
قال علماؤنا : لما كان كل واحد من هؤلاء مخاطبا بأمرين من جهتين استحق كل واحد منهم أجرين ، فالكتابى كان مخاطبا من جهة نبيه ، ثم إنه خوطب من جهة نبينا ، فأجابه واتبعه فله أجر الملتين» (٢).
وقوله ـ تعالى ـ (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) بيان لصفة أخرى من صفاتهم الحسنة.
و (يَدْرَؤُنَ) من الدرء بمعنى الدفع ومنه الحديث الشريف : «ادرءوا الحدود بالشبهات».
أى : لا يقابلون السيئة بمثلها ، وإنما يعفون ويصفحون ، ويقابلون الكلمة الخبيثة بالكلمة الحسنة.
(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أى : ومما أعطيناهم من مال يتصدقون ، بدون إسراف أو تقتير.
(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) أى : وإذا سمعوا الكلام الساقط الذي لا خير فيه.
انصرفوا عنه تكرما وتنزها.
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٣ ص ٤٢٠.
(٢) تفسير القرطبي ج ١٣ ص ٢٩٧.