وقوله ـ عزوجل ـ : (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ) صفة ثالثة لهم. أى : أنهم يخلصون العبادة لله ـ تعالى ـ وحده ، ويقصدون بأقوالهم وأعمالهم وجهه الكريم ، فهم بعيدون عن الرياء والمباهاة بطاعاتهم.
ثم بين ـ سبحانه ـ صفتهم الرابعة فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ).
قرأ القراء السبعة (يُؤْتُونَ ما آتَوْا) بالمد ، على أنه من الإتيان بمعنى الإعطاء ، والوجل : استشعار الخوف. يقال : وجل فلان وجلا فهو واجل ، إذا خاف ، أى : يعطون ما يعطون من الصدقات وغيرها من ألوان البر ، ومع ذلك فإن قلوبهم خائفة أن لا يقبل منهم هذا العطاء ، لأى سبب من الأسباب فهم كما قال بعض الصالحين : لقد أدركنا أقواما كانوا من حسناتهم أن ترد عليهم ، أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها.
قال الإمام ابن كثير ما ملخصه : أى : يعطون العطاء وهم خائفون أن لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط.
كما روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت : «يا رسول الله (الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) هو الذي يسرق ويزنى ويشرب الخمر ، وهو يخاف الله ـ عزوجل ـ؟
قال : «لا يا بنت الصديق ، ولكنه الذي يصلى ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله ـ تعالى ـ».
ثم قال ـ رحمهالله ـ وقد قرأ آخرون : والذين يأتون ما أتوا .. من الإتيان. أى : يفعلون ما فعلوا وهم خائفون ...
والمعنى على القراءة الأولى ـ وهي قراءة الجمهور : السبعة وغيرهم ـ أظهر لأنه قال ـ بعد ذلك ـ : (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ) فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى ، لأوشك أن لا يكونوا من السابقين ، بل من المقتصدين أو المقتصرين (١).
وجملة (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) حال من الفاعل في قوله ـ تعالى ـ (يُؤْتُونَ).
وجملة (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) تعليلية بتقدير اللام ، وهي متعلقة بقوله : (وَجِلَةٌ).
أى : وقلوبهم خائفة من عدم القبول لأنهم إلى ربهم راجعون ، فيحاسبهم على بواعث
__________________
(١) تفسير ابن كثير ج ٥ ص ٤٧٤.