وقوله : (قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ ، سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) حكاية لما رد به إسماعيل على أبيه إبراهيم ـ عليهماالسلام ـ وهو رد يدل على علو كعبه في الثبات ، وفي احتمال البلاء ، وفي الاستسلام لقضاء الله وقدره.
أى : قال الابن لأبيه : يا أبت افعل ما تؤمر به من قبل الله ـ تعالى ـ ولا تتردد في ذلك وستجدني إن شاء الله من الصابرين على قضائه.
وفي هذا الرد ما فيه من سمو الأدب ، حيث قدم مشيئة الله ـ تعالى ـ ، ونسب الفضل إليه ، واستعان به ـ سبحانه ـ في أن يجعله من الصابرين على البلاء.
وهكذا الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ يلهمهم الله ـ تعالى ـ في جميع مراحل حياتهم ما يجعلهم في أعلى درجات السمو النفسي ، واليقين القلبي ، والكمال الخلقي.
ثم بين ـ سبحانه ـ بعد ذلك ما كان من الابن وأبيه فقال : (فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) وأسلما : بمعنى استسلما وانقادا لأمر الله ، فالفعل لازم ، أو بمعنى : سلّم الذبيح نفسه وسلم الأب ابنه ، فيكون متعديا والمفعول محذوف.
وقوله (وَتَلَّهُ) أى : صرعه وأسقطه ، وأصل التل : الرمي على التّل وهو الرمل الكثيف المرتفع ، ثم عمم في كل رمى ودفع ، يقال : تل فلان فلانا إذا صرعه وألقاه على الأرض.
والجبين : أحد جانبي الجبهة ، وللوجه جبينان ، والجبهة بينهما.
أى : فلما استسلم الأب والابن لأمر الله ـ تعالى ـ وصرع الأب ابنه على شقه ، وجعل جبينه على الأرض ، واستعد الأب لذبح ابنه .. كان ما كان منا من رحمة بهما. ومن إكرام لهما ، ومن إعلاء لقدرهما.
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : أين جواب لما؟ قلت : هو محذوف تقديره : فلما أسلما وتله للجبين «وناديناه أن يا إبراهيم. قد صدقت الرؤيا» كان ما كان مما تنطق به الحال ، ولا يحيط به الوصف من استبشارهما واغتباطهما ، وحمدهما لله ، وشكرهما على ما أنعم به عليهما من دفع البلاء العظيم بعد حلوله ، وما اكتسبا في تضاعيفه من الثواب ، ورضوان الله الذي ليس وراءه مطلوب .. (١).
وقد ذكروا هنا آثارا منها أن إسماعيل ـ عليهالسلام ـ لما هم أبوه بذبحه قال له : يا أبت اشدد رباطى حتى لا أضطرب ، واكفف عنى ثيابك حتى لا يتناثر عليها شيء من دمى فتراه أمى فتحزن ، وأسرع مرّ السكين على حلقى ليكون أهون للموت على ، فإذا أتيت أمى فاقرأ
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ٥٥.