وقوله ـ تعالى ـ : «مثاني» جمع مثنى من التثنية بمعنى التكرار والإعادة ولذا سميت سورة الفاتحة بالسبع المثاني ، لأنها تكرر وتعاد مع كل صلاة.
أى : الله ـ تعالى ـ نزل بفضله ورحمته عليك ـ يا محمد ـ أحسن الحديث «كتابا متشابها» أى : يشبه بعضه بعضا في فصاحته وبلاغته ، وفي نظمه وإعجازه ، وفي صحة معانيه وأحكامه ، وفي صدقه وهداياته وإرشاداته إلى ما يسعد الناس في دنياهم وآخرتهم ...
«مثاني» أى : تثنى وتكرر فيه القصص والمواعظ ، والأمثال والأحكام والوعد والوعيد ، كما تثنى وتكرر قراءته فلا تمل على كثرة الترداد ، وإنما يزداد المؤمنون حبا وتعلقا بتلاوته كلما أكثروا من هذه التلاوة.
وسمى ـ سبحانه ـ كتابه حديثا ، لأن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يحدث به قومه ، ويخبرهم بما كان ينزل عليه منه. فلفظ الحديث هنا بمعنى المحدث به لا بمعنى كونه مقابلا للقديم.
ولفظ «كتابا» بدل من قوله (أَحْسَنَ الْحَدِيثِ). وقوله : (مُتَشابِهاً مَثانِيَ) صفتان للكتاب.
ووصف بهما وهو مفرد وكلمة «مثاني» جمع ، باعتبار اشتماله على الكثير من السور والآيات والقصص والمواعظ والأحكام ..
أى : الله ـ تعالى ـ أنزل أحسن الحديث كتابا مشتملا على السور والآيات والمواعظ .. التي يشبه بعضها في الإعجاز ... والتي تثنى وتكرر فلا تمل على كثرة التكرار.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد عند تفسيره لهذه الآية فقال ما ملخصه : «وإيقاع اسم الله مبتدأ ، وبناء «نزل» عليه ، فيه تفخيم لأحسن الحديث ورفع منه ، واستشهاد على حسنه ، وتأكيد لاستناده إلى الله ، وأنه من عنده ، وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه ، وتنبيه على أنه وحى معجز مباين لسائر الأحاديث.
فإن قلت : كيف وصف الواحد بالجمع؟ قلت : إنما صح ذلك لأن الكتاب جملة ذات تفاصيل ، وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ، ألا تراك تقول : القرآن سور وآيات ... كما تقول الإنسان عظام وعروق ، فإن قلت : ما فائدة التثنية والتكرير؟ قلت : النفوس أنفر شيء عن حديث الوعظ والنصيحة ، فما لم يكرر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها ، ولم يعمل عمله ، ومن ثم كانت عادة رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يكرر عليهم ما كان يعظ به وينصح ثلاث مرات ، ليركزه في قلوبهم ، كي يغرسه في صدورهم ... (١).
__________________
(١) تفسير الكشاف ج ٤ ص ١٢٣.