وقوله ـ تعالى ـ : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) تعجيب من انصرافهم ـ بعد هذه النعم ـ عن الحق إلى الباطل ، وعن الشكران إلى الكفران.
أى : فكيف تنقلبون عن عبادته ـ سبحانه ـ إلى عبادة غيره ، مع أنه ـ عزوجل ـ هو الخالق لكل شيء ، وهو صاحب تلك النعم التي تتمتعون بها.
وقوله ـ تعالى ـ : (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) بيان لحال الذين وقفوا من نعم الله ـ تعالى ـ موقف الجحود والكفران.
ويؤفك هنا : بمعنى القلب والصرف عن الشيء ، من الأفك ـ بالفتح ـ مصدر أفكه عن الشيء بمعنى صرفه عنه ـ وبابه ضرب ـ ومنه قوله ـ تعالى ـ : (قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا ...) أى : لتصرفنا عن عبادتها.
والمعنى : مثل ذلك الصرف العجيب من الحق إلى الباطل ، ينصرف وينقلب كل أولئك الذين انتكست عقولهم ، والذين كانوا بآياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا يجحدون ويكفرون.
وبعد أن بين ـ سبحانه ـ مظاهر نعمه عن طريق الزمان ـ الليل والنهار ـ أتبع ذلك ببيان نعمه عن طريق المكان ـ الأرض والسماء ـ فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) أى : جعل لكم الأرض مكانا لاستقراركم عليها ، والسعى فيها.
(وَالسَّماءَ بِناءً) أى : وجعل لكم السماء بمنزلة القبة المبنية المضروبة فوق رءوسكم ، فأنتم ترونها بأعينكم مرفوعة فوقكم بغير عمد.
قال الآلوسى قوله : (وَالسَّماءَ بِناءً) أى : قبة ، ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب. وإطلاق ذلك على السماء على سبيل التشبيه ، وهو تشبيه بليغ. وفيه إشارة لكرويتها. وهذا بيان لفضله ـ تعالى ـ المتعلق بالمكان بعد بيان فضله المتعلق بالزمان (١).
وقوله : (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) بيان لفضله ـ تعالى ـ المتعلق بذواتهم.
أى : جعل لكم الأرض مستقرا ، والسماء بناء ، وصور أشكالكم في أحسن تقويم. وأجمل هيئة. كما قال ـ تعالى ـ : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ).
(وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أى : ورزقكم من الرزق الطيب الحلال المستلذ.
(ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أى : ذلكم الذي أعطاكم تلك النعم المتعلقة
__________________
(١) تفسير الآلوسى ج ٢٤ ص ٨٣.