والتعبير بالهداية والصراط فيه ما فيه من التهكم بهم ، والتأنيب لهم فكأنه ـ سبحانه ـ يقول : بما أنهم لم يهتدوا في الدنيا إلى الخير وإلى الحق ، وإلى الصراط المستقيم ، فليهتدوا في الآخرة إلى صراط الجحيم.
وقوله ـ سبحانه ـ (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ) زيادة في توبيخهم وإذلالهم ، والوقف هنا : بمعنى الحبس.
قال القرطبي : يقال : وقفت الدابة أقفها وقفا فوقفت هي وقوفا .. أى : احبسوهم ، وهذا يكون قبل السوق إلى الجحيم ، وفيه تقديم وتأخير أى : قفوهم للحساب ثم سوقوهم إلى النار .. (١) أى : واحبسوهم في موقف الحساب ، لأنهم مسئولون عما كانوا يقترفونه في الدنيا من عقائد زائفة ، وأفعال منكرة ، وأقوال باطلة.
ولا تعارض بين هذه الآية وأمثالها من الآيات التي صرحت بأن المجرمين يسألون يوم القيامة ، وبين آيات أخرى صرحت بأنهم لا يسألون كما في قوله ـ تعالى ـ : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ).
أقول لا تعارض بين هذه الآيات ، لأن في يوم القيامة مواقف متعددة ، فقد يسألون في موقف ولا يسألون في آخر .. أو أن السؤال المثبت هو سؤال التوبيخ والتقريع والسؤال المنفي هو سؤال الاستعلام والاستخبار.
قوله ـ تعالى ـ : (ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ) تقريع آخر لهم ، أى : ما الذي جعلكم في هذا اليوم عاجزين عن التناصر فيما بينكم ـ أيها الكافرون ـ مع أنكم في الدنيا كنتم تزعمون أنكم جميع منتصر؟
ثم أضرب ـ سبحانه ـ عما تقدم إلى بيان حالهم يوم القيامة فقال : (بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ).
والاستسلام : أصله طلب السلامة ، والمراد به هنا : الانقياد التام ، والخضوع المطلق. يقال : استسلم العدو لعدوه ، إذا انقاد له وخضع لأمره.
أى : ليسوا في هذا اليوم بقادرين على التناصر ، بل هم اليوم خاضعون ومستسلمون ، لعجزهم عن أى حيلة تنقذهم مما هم فيه من بلاء.
ثم يحكى ـ سبحانه ـ ما يدور بينهم من مجادلات يوم القيامة فيقول : (وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ).
__________________
(١) تفسير القرطبي ج ١٥ ص ٧٤.