الخالصة (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) الكلام في هذا كالكلام في المثل الّذي قبله ، أي : جعل الله حال امرأة فرعون مثلا لحال المؤمنين ترغيبا لهم في الثبات على الطاعة ، والتمسّك بالدين ، والصبر في الشدّة ، وأن صولة الكفر لا تضرّهم ، كما لم تضر امرأة فرعون ، وقد كانت تحت أكفر الكافرين ، وصارت بإيمانها بالله في جنات النعيم (إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ) الظرف متعلق بضرب أو بمثلا ، أي : ابن لي بيتا قريبا من رحمتك ، أو في أعلى درجات المقربين منك ، أو في مكان لا يتصرّف فيه إلا بإذنك وهو الجنة (وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ) أي : من ذاته ، وما يصدر عنه من أعمال الشرّ (وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) قال الكلبي : هم أهل مصر. وقال مقاتل : هم القبط. قال الحسن وابن كيسان : نجّاها الله أكرم نجاة ، ورفعها إلى الجنة فهي تأكل وتشرب (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) معطوف على امرأة فرعون ، أي : وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران ، أي : حالها وصفتها ، وقيل : إن الناصب لمريم فعل مقدّر ، أي : واذكر مريم ، والمقصود من ذكرها أن الله سبحانه جمع لها بين كرامة الدنيا والآخرة ، واصطفاها على نساء العالمين مع كونها بين قوم كافرين (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أي : عن الفواحش ، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النساء. قال المفسرون : المراد بالفرج هنا الجيب ؛ لقوله : (فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا) (١) وذلك أن جبريل نفخ في جيب درعها فحبلت بعيسى (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها) يعني شرائعه التي شرعها لعباده ، وقيل : المراد بالكلمات هنا هو قول جبريل لها : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) (٢) الآية. وقال مقاتل : يعني بالكلمات عيسى. قرأ الجمهور : «وصدقت» بالتشديد ، وقرأ حميد والأموي ويعقوب وقتادة وأبو مجلز وعاصم في رواية عنه بالتخفيف. وقرأ الجمهور : «بكلمات» بالجمع ، وقرأ الحسن ومجاهد والجحدري «بكلمة» بالإفراد. وقرأ الجمهور : «وكتابه» بالإفراد ، وقرأ أهل البصرة وحفص «كتبه» بالجمع ، والمراد على قراءة الجمهور الجنس فيكون في معنى الجمع ، وهي الكتب المنزلة على الأنبياء (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) قال قتادة : من القوم المطيعين لربهم. وقال عطاء : من المصلّين ، كانت تصلي بين المغرب والعشاء ، ويجوز أن يراد بالقانتين رهطها وعشيرتها الذين كانت منهم ، وكانوا مطيعين أهل بيت صلاح وطاعة ، وقال : من القانتين ، ولم يقل من القانتات ؛ لتغليب الذكور على الإناث. وقد أخرج عبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي الدنيا وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم ، والحاكم وصحّحه ، من طرق عن ابن عباس في قوله : (فَخانَتاهُما) قال : ما زنتا ، أما خيانة امرأة نوح فكانت تقول للناس : إنه مجنون ؛ وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدلّ على الضيف ، فتلك خيانتهما. وأخرج ابن المنذر عنه قال : ما بغت امرأة نبيّ قط ، وقد رواه ابن عساكر مرفوعا. وأخرج ابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر ، والحاكم وصحّحه ، والبيهقي في الشعب ، عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذّب بالشمس ، فإذا انصرفوا عنها أظلّتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة.
__________________
(١). الأنبياء : ٩١.
(٢). مريم : ١٩.