لم يثبت ربا مباينا للعالم ، فما أثبت ربا ، فإنه إذا نفى المباينة لزمه أحد أمرين ، لزوما لا انفكاك له عنه البتة : إما أن يكون هو نفس هذا العالم ، وحينئذ يصح قوله. فإن العالم لا يباين ذاته ونفسه ، ومن هاهنا دخل أهل الوحدة ، وكانوا معطلة أولا ، واتحادية ثانيا.
وإما أن يقول : ما ثم رب يكون مباينا ولا محايثا ، ولا داخلا ولا خارجا ، كما قالته الدهرية المعطلة للصانع.
وأما هذا القول الثالث المشتمل على جمع النقيضين : إثبات رب مغاير للعالم مع نفي مباينته للعالم ، وإثبات خالق قائم بنفسه ، لا في العالم ولا خارج العالم ، ولا فوق العالم ولا تحته ، ولا خلفه ولا أمامه ، ولا يمنته ولا يسرته : فقول له خبئ ، والعقول لا تتصوره حتى تصدق به. فإذا استحال في العقل تصوره. فاستحالة التصديق به أظهر وأظهر. وهو منطبق على العدم المحض ، والنفي الصّرف ، وصدقه عليه أظهر عند العقول والفطر من صدقه على رب العالمين ، فضع هذا النفي وهذه الألفاظ الدالة عليه على العدم المستحيل ، ثم ضعها على الذات العلية القائمة بنفسها ، التي لم تحل في العالم ، ولا حلّ العالم فيها ، ثم انظر أي المعلومين أولى به ، واستيقظ لنفسك ، وقم لله قومة مفكر في نفسه في الخلوة في هذا الأمر ، متجرد عن المقالات وأربابها وعن الهوى والحمية والعصبية ، صادقا في طلب الهداية من الله ، فالله أكرم من أن يخيب عبدا هذا شأنه. وهذه المسألة لا تحتاج إلى أكثر من إثبات رب قائم بنفسه ، مباين لخلقه ، بل هذا نفس ترجمتها.
فصل
ثم المثبتون للخالق تعالى نوعان :
أهل توحيد ، وأهل إشراك. وأهل الإشراك نوعان :
أحدهما : أهل الإشراك به في ربوبيته وإلهيته ، كالمجوس ومن