المبعدية لا تنشأ من الفعل الخارجي وانما تنشأ من الدواعي النفسانيّة المحركة نحو الفعل ، فالداعي الإلهي يوجب القرب والداعي الشيطاني يوجب البعد ، ولهذا نرى انَّ فعلاً واحداً لو أتي به بداعٍ إلهي يكون مقرباً ولو أتي به بداعٍ شيطاني يكون مبعداً ، مثل ما إذا شرب الماء بتخيل وجوب شربه وما إذا شرب نفس الماء بإرادة عصيانه تعالى بتخيل انه مسكر فتجرأ على المولى بشربه.
وعلى هذا فلو أمكن أن يوجد فعلاً واحداً بداعيين بداعٍ إلهي وبداعٍ شيطاني معاً ثبت الاقتراب والابتعاد معاً ، لأنَّ السبب للقرب والبعد ليس الفعل حتى يقال :
كيف يعقل انَّ شيئاً واحداً يوجب القرب والبعد إلي المولى في نفس الوقت وانما السبب هو الداعي والقصد فمع تعدده يعقل التقرب والابتعاد معاً.
إذا اتضحت هذه المقدمة نقول : تارة : يفترض انَّ مصلحة العبادة قائمة بخصوص الحصة المنهي عنها ، وأخرى : يفترض انَّ المصلحة قائمة بالجامع بين الحصة المنهي عنها وبقية الحصص المباحة.
فلو افترضنا قيام المصلحة بخصوص الحصة المنهي عنها استحالة قصد التقرب بمعنى انه لا يمكن أَنْ يكون في نفس العبد داعٍ إلهي ، إذ هذا الداعي الإلهي يدعوه إلى ما ذا؟
هل يدعوه إلى الجامع بين هذه الحصة وبين الحصص الأخرى المباحة؟ فهذا غير معقول لأنَّ المصلحة غير قائمة بالجامع وانما هي قائمة بخصوص الحصة ، أو يدعوه إلى إيجاد خصوص هذه الحصة؟ فهذا أيضاً غير معقول لأنَّ ترك الحصة أحسن عند المولى من فعلها فكيف يمكنه أَنْ يأتي بها لأجله تعالى ، فثبت انه لا يعقل أَنْ يقع الفعل عبادياً فهذا الملاك الخامس يتم في هذه الفرضية.
وامّا لو افترضنا انَّ المصلحة قائمة بالجامع بين هذه الحصة وبين الحصص الأخرى المباحة ، كما هو محل الكلام عادة ، فهنا يُعقل ثبوت داعٍ إلهي في نفسه ، يدعوه إلى الجامع ، فانَّ الجامع بوجوده الإطلاقي ثبوته أحسن عند المولى من عدمه.
نعم حال المولى عند عدم هذه الحصة يكون أحسن من حاله عند ثبوت هذه الحصة ، إلاّ أنَّ هذا يمنع عن أَنْ يكون الداعي الإلهي يدعوه إلى الحصة ولا يمنع عن أَنْ يدعوه إلى إيجاد الجامع بما هو إيجاد الجامع ، فانَّ إيجاد الجامع بما هو هو وبقطع النّظر