ومن كل هذا فقد أصبحت مكة محل تعظيم وإجلال من الناحية الروحية ، وسوق للتجارة وتبادل السلع ، وهي أعزّ بلاد العرب ، وفيها أهل السقاية والرفادة والرياسة في الحرب والتجارة ، والعربي إنسان يعتزّ بفرديته واستقلاله ، لكنّه يلتزم بالتقاليد القبلية وأحكامها التي تمثّل له الوحدة السياسية والاجتماعية والعسكرية ، وكانت القبيلة تتكوّن من عدد من الأسر ، والزعامة في القبيلة سلطة طارئة تخضع لمقتضيات الدفاع والهجوم ; لذلك فإنّ لكل مرحلة زعيمها ، والذي يتم اختياره وفق مقتضيات الصراع ، وعلى هذا فإنّ اللواء يعقد للأكبر والأكثر دراية والأحكم.
ولمّا كانت حياة الصحراء الجافّة القاسية تفرض نوعاً من الصراع المستمر على الماء والكلأ والزعامة ، اتّفقوا على جعل أيام من السنة أيام حرام ، يحرم فيها القتال ، وتكون فرصة للمصالحة والزواج ، ويأمن فيها الناس على أنفسهم وأموالهم.
وأمّا مكة فكان الصراع فيها أكثر من الصراع على الكلأ والماء ، فإنّ الصراع الأشد كان على خدمة الحجاج من سقاية ورفادة ورياسة ، وبعد صراع طويل اصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة لبني عبد مناف ، والحجابة واللواء والندوة لبني عبد الدار ، وبعد فترة صارت لبني عبد مناف الرياسة ، وكان يقال لهم المجيرون ، وذلك لأنّهم أخذوا لقومهم (قريش) الأمان من ملوك الأقاليم ليدخلوا في التجارة إلى بلادهم (١).
_______________
(١) الحافظ ابن كثير ، البداية والنهاية ، ٢ / ٢٣٦.