ثم صارت اسماً لِما فَضَل عن المقدار وأَفرَط فيه. وقال الله جلّ وعزّ : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) [الحَديد : ٢٧]
قلت : ومعنى هذه الآية عَوِيص.
قال أبو إسحاق : يَحتمل معناها ضَرْبينِ : أحدُهما أن يكون المعنى في قوله : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) وابتَدعُوا رَهبانيّةً ابتَدَعوها ، كما تقول : رأَيتُ زيداً وعَمْراً أَكْرَمْتُه. قال : ويكون (ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ) معناها : لم تُكْتَبْ عليهم البتّةَ ، ويكون (إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ) بدلاً من الهاء والألف ، فيكون المعنى : ما كَتَبْنَا عليهم إلّا ابتغاءَ رِضْوان الله ، وابتغاءُ رِضْوان الله اتِّباعُ ما أَمَر به ، فهذا ـ والله أعلم ـ وَجْهٌ ، وفيها وجْهٌ آخرُ : (ابْتَدَعُوها) جاء في التفسير أنهم كانوا يَرون من مُلوكهم ما لا يصبرون عليه ، فاتّخَذَوا أسراباً وصَوامِع ، وابتَدعوا ذلك ، فلمّا ألْزَموا أنفسهم ذلك التَّطَوُّعَ ، ودخلوا فيه لزِمَهم تمامُه ، كما أنَّ الإنسان إذا جعَل على نفسِه صَوْماً لم يُفترَضْ عليه لزِمه أَن يُتمِّمَه ، وأما قول الله جلّ وعزّ : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القَصَص : ٣٢] ، فإنَّ أبا إسحاق قال : يقال : من الرُّهْب والرَّهَب ، إذا جُزِمَ الهاءُ ضُمَّ الراء ، وإذا حُرِّكَ الهاءُ فُتح الراء ، ومعناهما واحد مثل الرُّشْد والرَّشَد.
قال : ومعنى (جَناحَكَ) هاهنا يقال : العَضُد ويقال : اليدُ كلُّها جَناح.
قلت : وقال مُقاتلٌ في قوله : من الرَّهَب : الرَّهَبُ كُمُّ مِدْرَعَتِه.
وروى عمرو عن أبيه : يقال لكُمِّ القميص : القُنُّ ، والرُّدْنُ ، والرَّهَب ، والْخِلاف.
وقال ابن الأعرابيّ : أَرْهبَ الرجلُ : إذا أطال رَهَبَه : أي كُمَّه.
قال وأرْهب إذا رَكِب رَهْباً ، وهو الجمل العالي.
قلت : وأكثرُ الناس ذهبوا في تفسير قوله : (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) [القَصَص : ٣٢] أنّه بمعنى الرّهبة ، ولو وَجدتُ إماماً من السَّلف يجعل الرَّهَب كُمّاً لذهبت إليه ؛ لأنه صحيح في العربية ، وهو أَشْبه بسياق الكلامِ والتفسيرِ ، والله أعلم بما أراد.
ويقال : استَرهبتُه وأرهبْتُه بمعنًى واحد.
وترهَّبَ الرجلُ : إذا صار راهباً يَخْشَى الله. قال الله : (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) [الأعرَاف : ١١٦] أي : أَرْهبوهم.
وترهبَ غيرَه : إذا توعَّدَه ، وقال العجّاج يصف عَيْراً وأُتُنَه :
تُعْطِيه رَهباها إذا تَرَهَّبا |
على اضطِمارِ الكَشْحِ بَوْلاً زَغْربا |
عُصارةَ الجَزءِ الذي تَحَلَّبا
رَهْباها : التي تَرهبُه ، كما يقال هالكٌ وهَلْكَى.
إذا ترهبا : إذا تَوَعَّدَها.
وقال الليث : الرَّهْب ـ جَزْمٌ ـ : لُغة في الرَّهَب. قال : والرَّهْباء : اسمٌ من الرَّهَب : تقول : الرَّهْباءُ من الله ، والرَّغْباء إليه.