الطبيعي ، والقول في تلكم الحوادث على الحقائق المحضة ، هكذا يحسب الدكتور ، لكنّه سرعان ما انقلب على عقبيه كرّا على ما فرّ منه ، فلم يسعه إلاّ الركون إلى العواطف ومتابعة النزعات ، فلم يرتد إلاّ تلكم السفاسف التي اختلقتها سماسرة العثمانيين ، ولم يسرح في مسيره إلاّ مقيّداً بسلاسل أساطير الأوّلين التي سردها الطبري ومن شايعه أو سبقه بتلك الأسانيد الواهية والمتون المزيّفة التي أوقفناك عليها في هذا الجزء وفيما سبقه من الأجزاء ، فلم نجد مائزاً بين هذا الكتاب وبين غيره من الكتب التي حسب الدكتور أنّ مؤلّفيها حدت بهم الميول والنزعات ، فما هو إلاّ فتنة كبرى كما سمّاه هو بذلك!
ترى الدكتور يحايد حذراً من أن يحيد عن مهيع الحقّ ويجور في الحكم ، وزعم الحياد أسلم في اليوم الحاضر كما كان في الأمس الدابر ، فذهب مذهب سعد بن أبي وقّاص الحائد في القضيّة واتّبع أثره ، قال في ديباجة كتابه (١) : عاش قوم من أصحاب النبيّ حين حدثت هذه القضيّة وحين اختصم المسلمون حولها أعنف خصومة عرفها تاريخهم فلم يشاركوا فيها ولم يحتملوا من أعبائها قليلاً ولا كثيراً ، وإنّما اعتزلوا المختصمين وفرّوا بدينهم إلى الله ، وقال قائلهم سعد بن أبي وقّاص ; : لا أُقاتل حتى تأتوني بسيف يعقل ويبصر وينطق فيقول : أصاب هذا وأخطأ ذاك.
فأنا أُريد أن أذهب مذهب سعد وأصحابه رحمهمالله ، لا أُجادل عن أُولئك ولا عن هؤلاء ، وإنّما أُحاول أن أتبيّن لنفسي وأُبيّن للناس الظروف التي دفعت أُولئك وهؤلاء إلى الفتنة ، وما استتبعت من الخصومة العنيفة التي فرّقتهم وما زالت تفرّقهم إلى الآن ، وستظلّ تفرّقهم في أكبر الظنّ إلى آخر الدهر ، وسيرى الذين يقرؤون هذا الحديث أنّ الأمر كان أجلّ من عثمان وعليّ وممّن شايعهما وقام من دونهما ، وأنّ غير عثمان لو ولي خلافة المسلمين في تلك الظروف التي وليها عثمان لتعرّض لمثل ما تعرّض له من
__________________
(١) الفتنة الكبرى : ٤ / ٢٠٠.