أبين من منطيقهم (١) ، ولا أعبد من عابدهم ، ولا أورع من زاهدهم ، ولا أفقه من حاكمهم ، ولا أخطب من خطيبهم ، ولا أشعر من شاعرهم ، ولا أفتك من ماجنهم.
ولم تكن بغداد مدينة (٢) في الأيام المتقدّمة ، أعني أيام الأكاسرة (٣) والأعاجم (٤) ، وإنما كانت قرية من قرى طسوج بادوريا (٥).
وذلك أن مدينة الأكاسرة التي خاروها (٦) من مدن العراق المدائن (٧) ، وهي من
__________________
(١) المنطيق : البليغ. (القاموس المحيط ، مادة : نطق).
(٢) كان أوّل من مصرها وجعلها مدينة المنصور بالله أبو جعفر عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب ثاني الخلفاء العباسيين ، وانتقل إليها من الهاشميّة. كان سبب عمارتها أن أهل الكوفة كانوا يفسدون جنده فبلغه ذلك من فعلهم ، فانتقل عنهم يرتاد موضعا ، فرأى موضعا طيبا ، فقال لجماعة منهم سليمان بن مجالد ، وأيوب المرزباني ، وعبد الملك بن حميد الكاتب : ما رأيكم في هذا الموضع؟ قالوا : طيب موافق ، فقال : صدقتم ، ولكن لا مرفق فيه للرعية ، وقد مررت في طريقي بموضع تجلب إليه الميرة (الأطعمة) والأمتعة في البر والبحر وأنا راجع إليه وبائت فيه فإن اجتمع لي ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أريده لي وللناس. فأتى بعد ذلك إلى الموضع وهو بغداد وعبر موضع قصر السّلام ، ثم صلى العصر ، وذلك في صيف وحرّ شديد ، فبات أطيب مبيت ، وأقام يومه فلم ير إلّا خيرا ، فقال : هذا موضع صالح للبناء ، فإنّ المادة تأتيه من الفرات ودجلة وجماعة الأنهار ، ولا يحمل الجند والرعية إلّا مثله ، فخطّ البناء وقدّر المدينة ووضع أوّل لبنة بيده ، فقال : بسم الله والحمد لله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، ثم قال : ابنوا على بركة الله. قيل : إنه أنفق على بنائها ثمانية عشر ألف ألف دينار ، وكان أوّل العمل فيها سنة ١٤٥ ه.(معجم البلدان ج ١ / ص ٥٤٣).
(٣) الأكاسرة : مفردها كسرى ، وهو اسم كلّ ملك من ملوك الفرس. (القاموس المحيط ، مادة : كسر).
(٤) الأعاجم : من ليس بعربي أو من كان جنسه من العجم الفرس أو الروم. (المنجد في اللغة والأعلام ، مادة : عجم).
(٥) بادوريا : بالواو والراء ، ناحية من كورة الأستان بالجانب الغربي من بغداد. قيل : من استقلّ من الكتّاب ببادوريا استقل بديوان الخراج ، ومن استقلّ بديوان الخراج استقل بالوزارة ، وذاك لأن معاملاتها مختلفة وقصبتها الحضرة ، والمعاملة فيها مع الأمراء والوزراء والقوّاد والكتّاب والأشراف ووجوه الناس. (معجم البلدان ج ١ / ص ٣٧٧).
(٦) خاروها : اختاروها.
(٧) المدائن : قال يزدجرد : إن أنوشروان بن قباذ وكان أجلّ ملوك فارس حزما ، ورأيا ، وعقلا ، وأدبا فإنه بنى المدائن ، وأقام بها هو ومن كان بعده من ملوك بني ساسان إلى أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقد ذكر في سير الفرس أن أوّل من اختطّ مدينة في هذا الموضع أردشير بن بابك ، قالوا : لما ملك البلاد سار حتى نزل في هذا الموضع فاستحسنه فاختطّ به مدينة ، ولم نجد أحدا ذكر لم سمّيت بالجمع ، لكن الثابت أنها مساكن ملوك الأكاسرة من ـ