بمواضعه من الأرض ، وحمل من مصر من يعمل القراطيس (١) وغيرها ، وحمل من البصرة من يعمل الزجاج والخزف والحصر ، وحمل من الكوفة من يعمل الأدهان.
ومن سائر البلدان من أهل كل مهنة وصناعة فأنزلوا بعيالهم بهذه المواضع وأقطعوا فيها وجعل هناك أسواقا لأهل المهن بالمدينة.
وبنى المعتصم العمارات قصورا ، وصيّر في كل بستان قصرا فيه مجالس ، وبرك ، وميادين ، فحسنت العمارات ورغب وجوه الناس في أن يكون لهم بها أدنى أرض ، وتنافسوا في ذلك وبلغ الجريب (٢) من الأرض مالا كبيرا ومات المعتصم بالله سنة سبع وعشرين ومائتين.
وولي الخلافة هارون الواثق بن المعتصم ، فبنى الواثق القصر المعروف بالهاروني على دجلة ، وجعل فيه مجالس في دكة شرقية ، ودكة غربية ، وانتقل إليه وزادت الإقطاعات ، وقرّب قوما ، وباعد ديار قوم على الأخطاء لا على الأبعاد فأقطع وصيفا دار أفشين التي بالمطيرة ، وانتقل وصيف عن داره القديمة إلى دار أفشين ، ولم يزل يسكنها وكان أصحابه ورجاله حوله وزاد في الأسواق ، وعظمت الفرض (٣) التي تردها السفن من بغداد ، وواسط ، والبصرة ، والموصل.
وجدد الناس البناء وأحكموه وأتقنوه لما علموا أنها قد صارت مدينة عامرة ، وكانوا قبل ذلك يسمّونها العسكر.
ثم توفي الواثق في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين ، وولي جعفر المتوكل بن المعتصم (٤) ، فنزل الهاروني وآثره على جميع قصور المعتصم ، وأنزل ابنه محمد
__________________
(١) القرطاس : جمعها القراطيس ، وهي الصحيفة التي يكتب فيها ، والقرطاس هو برديّ مصري.
(القاموس المحيط ، مادة : قرطس).
(٢) الجريب : الأرض المحلة. (القاموس المحيط ، مادة : جرب).
(٣) الفرض : من النهر ، الثّلمة ينحدر منها الماء ، وتصعد منها السفن ويستقي منها ، أو محطّ السفن في البحر. (القاموس المحيط ، مادة : فرض).
(٤) المتوكّل : هو جعفر ، المتوكّل على الله ، بن محمد ، المعتصم بالله ، بن هارون الرشيد ، أبو الفضل ، خليفة عباسي ، ولد ببغداد سنة ٢٠٦ ه / ٨٢١ م. وبويع بعد وفاة أخيه الواثق سنة ٢٣٢ ه ، وكان جوادا ممدوحا محبا للعمران ، من آثاره «المتوكّلية» ببغداد ، أنفق عليها أموالا كثيرة ، وسكنها. ولما استخلف كتب إلى أهل بغداد ، كتابا قرىء على المنبر بترك الجدل في القرآن ، وأن الذمة بريئة ممن يقول بخلقه ، أو غير خلقه ، ونقل مقرّ الخلافة من بغداد إلى دمشق ، فأقام بهذه شهرين ، فلم يطب له مناخها ، وعاد فأقام في سامرّاء إلى أن اغتيل ـ