وكان آل تنوخ وآل معن حجازا في أعالي سواحل لبنان بين أملاك الصليبيين وأملاك صاحب دمشق ولهم الأثر المذكور في ذلك ، ولذلك كان يتنازعهم المستولي على دمشق والمتولون للساحل ولكن خدمتهم للمسلمين أكثر بالطبع وهواهم مع أبناء دينهم وعلى نحو ذلك كان الدروز وقد قاتلوا في صفوف المسلمين فأظهروا من الشجاعة والنجدة ما تقرّ به العيون. ومن الغريب أن شيعة جبل عاملة كانت مع الصليبيين على إخوانهم المسلمين إلا قليلا ، وكأنهم اضطروا إلى ذلك اضطرارا لأن أرضهم في قبضة الصليبيين ، كما كان هوى الموارنة لمكان الدين مع الصليبيين ، ومن الموارنة أدلاء لهؤلاء وعمال وتراجمة ، وكان بطاركة أهل الصليب يتنقلون في قرى لبنان الساحلية ولهم السلطان الأكبر على أمراء الفرنج.
وكانت قوى فريق المسلمين وفريق الدخلاء متعادلة في الغالب ، ينال كل منهما من جاره ويغزوه في عقر داره ، ويعود وقد ملئت أيدي المتحاربين بالغنائم والأسرى. والفرنج يأتيهم المدد كل سنة على طريق البحر ، والبحر لا يحمل الناس كالبر ، والمسلمون تأتيهم النجدات من مصر في الجنوب ومن العراق في الشرق ومن ديار بكر وديار مضر وآسيا الصغرى. والفرنج مؤلفون بحسب عناصرهم من طليان وفرنسيين وألمان ، وجيوش المسلمين مؤلفة من تركمان وأكراد وعرب.
وما غفل فريق عن فريق سنة واحدة خلال هذه المدة. ولم يكتب لأحد عظماء الأمراء من أهل الاسلام أن يطول عهده وترسخ قدمه في الملك والسلطان حتى يحمل حملة رجل واحد على الفرنج ، فإن دمشق وحلب وعليهما في الجنوب والشمال المعول في الحرب لأنهما المعسكران العظيمان كثيرا ما شغلا بأنفسهما ورد دسائس الذين يتربصون الدوائر بملوكهما ، والفرقة الباطنية التي كان المقصد من الإغضاء عنها أن تقف سدا في وجه الأعداء لما عرف به أربابها من الشدة والمضاء ، أصبحت آلة شر على المسلمين لا لهم في أكثر الأحيان ، ولم يخلصوا لمن انشقوا عنهم مذهبا وإن لم ينشقوا عنهم قومية.
فاقتضت الحال أن يتولى أمر الأمة بعد تتش وآق سنقر وبزان وابن عمار وابن منقذ ومسعود وطغتكين وبوري وزنكي أمراء من عيار أرقى وبسلطة أعظم ، تكون اجزاء حكومتهم أكثر تجانسا من ذي قبل ، وليس الزمن زمن ملك وإمارة ، ولا عهد سكة مضروبة ، وخطبة مخطوبة ، بل العهد عهد عمل بالقرائح والعقول ،