ولا يهتم ابن الشام أيضا إذا كثرت الخيرات على العاصمة بما يصرف فيها من أموال المغانم والمغارم ، ما دامت طرق الجباية عنده منهكة لقواه ، وما دام الولاة يسفون لأخذ المكوس لأنفسهم من الحانات ومن المسكرات ، وما دامت الضرائب تستوفى حتى من المغنيات والمومسات ، وما دامت المناصب الكبيرة دع الصغيرة يتوصل إليها بطرق دنيئة على سبيل الضمان والإيجار ، وما دام الأمن مختل النظام وأهل البادية ولصوص الأعراب على عاداتهم في السلب والنهب ، ومن المتعذر أن ينتصف المظلوم من الظالم ، وأن تعمل الدولة في باب العمران جزءا مما تأتي في تخريبه.
وضع السلطان سليمان قوانينه وما ندري إذا كانت وصلت إلى هذه الديار ، وهب أنها انتهت إليها فهي في السجلات محفوظة ، لم يطبق منها إلا ما لا ينفع العلم به ولا يضر الجهل بمضامينه. وما دام القانون السماوي الذي عملت الشام به منذ الفتح الإسلامي غير نافذ على ما يجب ، فما الحال بقانون يعمله رجال قد يغيرون من الغد اجتهادهم وهو يتعذر تطبيقه وإنفاذه؟ بدأت الدولة منذ دور سليمان بالرسميات وأخذت تلقي الشغب بين العلماء ، وذلك برتب اخترعتها لهم وجرايات أدرتها عليهم ، فزادت لأجل هذه النفقات الضرائب والخراج على الأمة وكثر التنافس بينهم ، وقلّ القوالون بالحق من رجال العلم ، وأنشأ معظمهم يدلسون ويوالسون ويمتدحون السلطان مهما ضل وغوى ، وسهل بعد ربط العلماء بروابط الرتب والرواتب أن يستصدر السلاطين كما قال ضيا باشا فتاوى بقتل الأبرياء ممن تغضب عليهم الدولة ، وكان الذين يقتلون كل سنة على هذه الصورة عددا من الناس لا يستهان به وفيهم العاقل والدراكة ، وكل من في قتله راحة للدولة أو مصلحة يتوهمها السلطان وبعض الزبانية الطغاة من ولاته ، وقد تعاقب على دمشق خلال القرن العاشر أي مدة ٧٨ سنة خمسة وأربعون واليا وعلى حلب سبعة عشر ، ولم يحس الناس بتبدل نافع في حكم العثمانيين من عهد المماليك حتى بعد ثمانية عقود من السنين.