قلوبهم وحرق أرضهم ، وكان في كل وقعة يغني غناء حسنا ، هذا ودمشق ليست له فكيف إذا أصبحت في حكمه ، لا جرم أنه يتقوى بها وتقوى كلمته ولذا عدل إلى ملاطفة مجير الدين ومكاتبته وبعث اليه بهدايا فأنس به وصار يكاتبه ويستشيره فكان نور الدين يكتب إليه إن فلانا يكاتبني فتارة يقبض مجير الدين عليهم وتارة يبقيهم ، فخلت دمشق من الأمراء ولم يبق عنده غير عطاء بن حفاظ ، وكان صاحب بعلبك قد رد إليه مجير الدين أمر دولته وكان ظالما ، فكتب نور الدين إلى مجير الدين يقول : قد نفر عليك عطاء بن حفاظ قلوب الرعية فاقبض عليه لعلم نور الدين أنه لا يتم له أمر في دمشق مع وجود عطاء فقبضه مجير الدين وأمر بقتله فقال له عطاء : لا تقتلني فإن الحيلة قد تمت عليك وذهب ملكك وسترى ، فلم يلتفت إليه وقتله وحينئذ قوي طمع نور الدين في دمشق ، وأرسل إلى أحداثها وأعيانها فأجابوه ، فسار إليها ونزل عليها وكتب مجير الدين إلى الفرنج يستنجد بهم وبذل لهم بعلبك وأموالا كثيرة ، وبلغ نور الدين فأرسل إلى الأحداث ففتحوا له الباب الشرقي فدخلها وحصر مجير الدين في القلعة ، وبلغ ذلك الفرنج فتوقفوا ولما دخل نور الدين صاح أصحابه «نور الدين يا منصور» وامتنع الأجناد والرعية من القتال لما هم عليه من بغض مجير الدين وظلمه وعسفه للرعية ومحبتهم لنور الدين لعدله وخيره.
سئمت النفوس في دمشق من سوء إدارة المتغلبين على أحكامها أمثال الوزير حيدرة ومجاهد الدين بزان وعطاء وغيرهم ، ممن لم يكونوا يهتمون بغير إملاء بطونهم وجيوبهم من دماء الرعية ، ولو أصبحوا عبيدا أرقاء لأعدائهم. أما مجير الدين آخر ملوك الأتابكية في دمشق فإن نور الدين لما غلبه بذل له إقطاعا من جملته مدينة حمص ، فسلم مجير الدين القلعة إلى نور الدين وسار إلى حمص فلم يعطه إياها وأعطاه عوضها بالس فلم يرضها مجير الدين وسار عنها الى العراق وأقام ببغداد حتى مات بها. وهذا من غريب ما يحكى في باب العدل فإن الملوك جرت عادتهم في تلك العصور اذا أخذوا ملكا أن يقتلوه فلم يفعل ذلك نور الدين تحرجا من إهراق الدم الحرام واستحكام الطوائل والثارات والأحقاد في أمة أشد ما تكون إلى التضافر. أعطى نور الدين حمص أقطاعا لمجير الدين حتى لا يقطع له أمله ثم عوضه عنها ببالس لأن حمص على مقربة من كور الصليبيين.