ولا يرى الدينار في الوسط وإنما يعدون إلى القراطيس بالسعر تارة ستين بدينار وتارة سبعة وستين بدينار ، وأشار كل واحد من الحاضرين على نور الدين أن يضرب الدينار باسمه وتكون المعاملة بالدنانير الملكية وتبطل القراطيس بالكلية ، فسكت ساعة وقال : إذا ضربت الدينار وأبطلت المعاملة بالقراطيس فكأني ضربت بيوت الرعية. فإن كل واحد من السوقة عنده عشرة آلاف وعشرون ألف قرطاس ، في شيء يعمل به فيكون سببا لخراب بيته.
قالوا ، والحق ما قالوا ، إن نور الدين جدد للملوك اتباع سنة العدل والإنصاف ، وترك المحرمات وعاقب من يأتيها ، فإنهم كانوا قبل ذلك كالجاهلية همة أحدهم بطنه وفرجه ، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا ، حتى جاء الله بدولته فكانت مصباح الحق ومنار العدل ، وقف مع أوامر الشرع ونواهيه ، وألزم بذلك أتباعه وذويه فاقتدى به غيره منهم ، وكان يروي الحديث ويرويه ، وقد ألف كتابا في الجهاد ، وكان يباشر الإشراف على خيل الجند وسلاحهم بنفسه ، ولا يتكل على خواده ، ولا يقطع أمرا قبل أن يستأذن الخليفة ببغداد. وكان في السياسة والدهاء على جانب عظيم ، تجلى ذلك يوم خيانة مجير الدين صاحب دمشق ولما أخذه أغضى عنه ، وكان يكره إهراق الدماء والحرب على غير طائل ، مع شجاعة ليس بعدها مزيد ومعرفة بالرماية تضرب بها الأمثال ، ومن جيد الرأي ما سلكه مع مليح بن قيون ملك الأرمن صاحب الدروب فإنه ما زال يخدعه ويستميله حتى جعله في لدمته سفرا وحضرا ؛ وكان يقاتل به الفرنج ويقول : إنما حملني على استمالته أن بلاده حصينة وعرة المسالك ، وقلاعه منيعة وليس لنا إليها طريق ، وهو يخرج منها إذا أراد فينال من الإسلام ، فإذا طلب انحجز فيها فلا يقدر عليه ، فلما رأيت الحال هكذا بذلت له شيئا من الأقطاع على سبيل التآلف حتى أجاب إلى طاعتنا وخدمتنا وساعدنا على الفرنج. وكان متملك الروم خرج من القسطنطينية وتوجه إلى الشام طامعا في تسلم أنطاكية فشغله عن مرامه بالمراسلة إلى أن وصل أخوه قطب الدين في جنده من المواصلة وجمع له الجيوش والعساكر ، فأيس الرومي من بلوغ ما كان يرجو وتمنى منه الصلح فاستقر رجوعه إلى بلاده.
وقال مترجموه : إنه كان يكثر إعمال الحيل والمكر والخداع مع الفرنج وأكثر ما ملكه من بلادهم بهذه الأساليب ، أما أعماله في رد المظالم وتخفيف المغارم