فلما رأيته وقع في خاطري أنه المنصور لأنني فارقت سيف الدين والأمراء وهم على طنافس الحرير والخمور تراق والطبول تعمل ، وليس في خيامهم خيمة إلا وفيها أنواع المحرمات ، فأديت اليه الرسالة وجاء وقت الظهر فضج العساكر بصوت الآذان وفي كل خيمة إمام. قال سبط ابن الجوزي : إن صلاح الدين لما هزم جيش سيف الدين عاد الى خيامهم فوجد سرداق سيف الدين مفروشا بالرياحين ، والمغنون جلوس في انتظاره ، والخمور تراق ومطابخه بقدورها ، وفيه أقفاص الطيور فيها أنواع من القماري والبلابل والهزارات ، فأرسل صلاح الدين بما كان في السرادق من المغنين والخمور والطيور إليه وقال للرسول : قل له اشتغالك بهذا أليق من مباشرتك الحروب ولا تعد إلى مثلها. وكان هذا المصاف بين السلطان صلاح الدين وسيف الدين غازي في سنة (٥٧١) فهرب سيف الدين والعساكر التي كانت معه وكان استنجد بعد هزيمته في قرون حماة بصاحب حصن كيفا وصاحب ماردين وغيرهما ثم سار صلاح الدين الى بزاعة فحصرها وتسلمها وقصد منبج فحصرها وافتتحها عنوة. ولما جلس يستعرض أموال صاحبها وذخائره كان في جملة أمواله ثلاثمائة ألف دينار ومن الفضة والآنية الذهبية والأسلحة ما يناهز ألفي ألف دينار ، فحانت من السلطان التفاتة فرأى على الأكياس والآنية مكتوبا «يوسف» فسأل عن هذا الاسم فقيل له : ولد يحبه ويؤثره اسمه يوسف كان يدخر هذه الأموال له فقال السلطان : أنا يوسف وقد أخذت خبىء فتعجب من ذلك (رواه ابن أبي طي).
ثم سار السلطان الى عزاز ونازلها وتسلمها فوثب إسماعيلي على صلاح الدين في حصاره عزاز فضربه بسكين في رأسه فجرحه فأمسك صلاح الدين يدي الإسماعيلي وبقي يضرب بالسكين فلا يؤثر حتى قتل الإسماعيلي على تلك الحال ووثب آخر عليه فقتله أيضا وجاء السلطان الى خيمته مذعورا وعرض جنده وأبعد من أنكره منهم. وهكذا فإن صاحب حلب أو نائبه أو جماعة دولته ، وصاحب حماة أو نائبه أو حملة غاشيته صمموا على اغتيال صلاح الدين بأيدي الخوارج حرصا على ملك قد يسلم لهم فيستمتعون به زمنا أولا يستمتعون ، ولو وفقوا الى قتله لقتلوا به أمة بأسرها حتى يعيشوا سنين في دعة ومجد ، وما أكثر الأدعياء في كل زمن في حب دينهم وقوميتهم ، فإذا لم ينالوا رغائبهم ساروا على العمياء لحظ أنفسهم فقط.