النقابين من النقب أرسلوا باليان بن نيرزان صاحب الرملة إلى صلاح الدين يطلب الأمان فأبى السلطان وقال : لا أفعل بكم إلا كما فعلتم بالمسلمين حين ملكتموه سنة إحدى وتسعين وأربعمائة من القتل والسبي فقال له باليان : أيها السلطان اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير ، وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان ، فإذا رأينا أن الموت لا بد منه فو الله لنقتلن أولادنا ونساءنا ونحرق أموالنا ولا نترككم تغنمون منا دينارا ولا درهما ولا تسبون وتأسرون رجلا أو إمرأة ، فإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى. ثم نقتل من عندنا من أسارى المسلمين وهم خمسة آلاف أسير ، ولا نترك لنا دابة ولا حيوانا إلا قتلناه ، ثم خرجنا إليكم كلنا وحينئذ لا يقتل الرجل منا حتى يقتل أمثاله ، ونموت أعزاء ونظفر كرماء، فاستشار صلاح الدين أصحابه فأجمعوا على إجابتهم إلى الأمان وأن لا يحرجوا ويحملوا على ركوب ما لا يدرى عاقبة الأمر فيه ، فأجاب صلاح الدين حينئذ إلى بذل الأمان للفرنج.
وكان رأي صلاح الدين أخذ الفداء فتغلب رأيه على ما كان يراه بعض جماعته أولا من إهراق دماء الفرنج كما أهرق أجدادهم دماء المسلمين ، وهذا التهديد من سفير الصليبيين في الصلح لا شأن له مع صلاح الدين ، وهو في تلك القوة والمنعة ، ولكن صلاح الدين يرمي إلى مقصد أعلى من جميع مقاصد جماعته وجماعة الصليبيين ، كان يريد بما فعل من قبول الفداء تعليم الصليبيين درسا في سماحة الإسلام ، وأن لا يثير الحفائظ وهو على يقين من أن أوربا ما جيشت إلا قليلا لفتح القبر المقدس فإذا قتل من فيه وفيهم الأمراء والسادة والقادة وغيرهم يقيم في كل دار في الغرب مأتما وتزيد الطوائل بين الفريقين ، ويهب الفرنج في الغرب إلى جمع شملهم ، أكثر مما جمعوا في القرن الماضي ومنتصف هذا القرن وتعود الشام إلى خرابها.
وما الفائدة من القتل إذا كان يجلب الويلات على فاعله وعلى ذويه. على أن صلاح الدين لو قتل فرنج القدس لما كان خرج عن مألوف عادة تلك العصور وما عدّ عمله شيئا فريا ، إذ يكون قد كال لهم بالكيل الذي كالوا به لأمته. بيد أن السماحة التي بدت منه أكسبته وقومه في الغرب إسما عطرا لا يزال يردد بالخير على كرور الأيام ، ودب الفشل في نفوس القابضين على زمام الأمر فلم