والفكر متجه إلى مقصد واحد. استمات المسلمون في تأييد سلطانهم ، وحاربوا بكل ما لديهم من ضروب الكر والفر وصنوف الدهاء والخديعة ، وما الحرب إلا خدعة ـ قاتلوا كما قال شاهد العيان من المؤرخين ، مرة بالأبراج ، وأخرى بالمنجنيقات ، ورادفة بالدبابات ، وتابعة بالكباش ، وآونة باللوالب ، ويوما بالنقب ، وليلا بالسرابات ، وطورا بطم الخنادق ، وآنا بنصب السلالم ، ودفعة بالزحوف في الليل والنهار ، وحالة في البحر بالمراكب ، ولكن الحرب سجال والدهر دول ، وما كل يوم يكتب النصر للغزاة ، ويحالف التوفيق أعلامهم ، وما كل خطة يقررها صاحب الأمر بادئ الرأي تكون سديدة من كل وجه ، فقد انتقدوا على صلاح الدين بعد وقائعه مع الصليبيين وظفره الباهر بهم في الأردن والجليل وبيت المقدس كيف فتح لأعدائه السبل ليذهبوا إلى صور ، ويجتمع هناك فلّ جيوشهم حتى تألفت منهم كتلة قويت بما جاءها من البحر من الإنكليز والفرنجة ، فكان ما كان من هزيمة جيشه على عكا ، ولو كان حيا لدافع عن نفسه دفاعا معقولا مقبولا فيما نحسب ، ولعلّ ذلك يدخل في باب مراحمه التي تجلت فيها نفسه العظيمة يوم فتح القدس ، فلم يعامل أعداءه إلا بما اقتضته سياسته وسيرته.
كان صلاح الدين يعنى بجنده ويتعهده ويسأل عن صحة أمرائه ومن دونهم في راحتهم ومنامهم وأكلهم وشربهم ، يحارب المحارب ساعات مخصوصة من النهار أو الليل ثم يستريح أو يحارب مدة معينة ثم يذهب إلى ذويه ، على أرقى الأصول المتعارفة في الحروب الحديثة. والغنائم تقسم بين الحاربين بحيث يغتني أفرادهم وجماعاتهم دع مالهم من الأموال الدارة من أموال الجباية والرسوم على التجار وما خصوا به من الحرمة ورفعة الشأن ، يأخذون إما رواتب أو إقطاعات ، ولم تكن إقطاعاتهم كإقطاعات الغرب تورث على الأغلب بل تزول عن صاحبها بموته أو بعزله ، ولذلك كان المحاربون متعلقين أبدا بسلطانهم وأميرهم ، متفانين في إحسان الخدمة كأنهم يدافعون عن بيوتهم وأطفالهم.
جاء صلاح الدين إلى دمشق بعد عقد الصلح مع الفرنج في فلسطين ، وكان يحب دمشق ويؤثر الإقامة فيها. فلقي الأهل والولد بعد تغيب أربع سنين وذهب يتصيد مع أخيه الملك العادل خمسة عشر يوما فكان عمله كأنه وداع لأهله وأولاده ومرابع نزهه وأنسه. ثم مرض أياما وهلك حميد الأثر فضجت الأمة لفقده ،