بل قد تجد لمماليكه وخواصه أوقافا نسبت إليهم ولم ينسب إليه إلا قليل وكان مماليك صلاح الدين وخواصه وأمراؤه وأجناده أعفّ من الزهاد والعباد ، والناس على دين ملوكهم. ومن كرم صلاح الدين أنه أخرج في مدة مقامه على عكا ثمانية عشر عشر ألف دابة من فرس وبغل سوى الجمال ، وأما العين والثياب والسلاح فإنه لا يدخل تحت حصر ، وما كان يركب فرسا إلا وقد وعد بأن يعطيه لطالب من جماعته ، وقد فرّق من ذخائر الفاطميين لما فتح مصر ما يفوق الإحصاء ولم يبق منه قليلا ولا كثيرا. ومن رسالة له إلى الديوان العزيز ببغداد : فقد علم أن الخادم بيوت أمواله ، في بيوت رجاله ، وأن مواطن نزوله ، في مواقف نزاله ، ومضارب خيامه ، أكنة ظلاله ، وأنه لا يذخر من الدنيا إلا شكّته ، ولا ينال من العيش إلا مسكته. كان صلاح الدين يعيش عيش المتوسطين ، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف ، ويكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف ، ومجلسه منزه عن الهزء ومحافله حافلة بأهل الفضل ، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية ، وكان من جالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان ، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان. كان من عظماء الشجعان ، قوي النفس ، شديد البأس ، عظيم الثبات ، لا يهوله أمر. وصل في ليلة واحدة من الفرنج نيف وسبعون مركبا إلى عكا وهو لا يزداد إلا قوة نفس ، وكان يعطي دستورا أن يسرح عسكره في أوائل الشتاء ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة ، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف فيما قالوا ، ومع هذا تراه صابرا هاجرا في محبة الجهاد في سبيل الله أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه ، قانعا من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة ، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريبا منهم ، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين ، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة ، يرتب الأطلاب ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها وكان يشارف العدو ويجاوره.
انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا حتى القلب ورجاله ، ووقعت الكوسات والعلم وهو ثابت القدم في نفر يسير ، فانحاز إلى الجبل يجمع الناس ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا ، ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو