أنفسهم أو مصفوفين ، كأنهم فيء في تراصهم من غير فرجة ولا خلل ، بنيان رص بعضه إلى بعض. والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص. وقيل : المراد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص. قيل : وفيه دليل على فضل القتال راجلا ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة ؛ وصفا وكأنهم ، قال الزمخشري : حالان متداخلان. وقال الحوفي : كأنهم في موضع النعت لصفا. انتهى. ويجوز أن يكونا حالين من ضمير يقاتلون.
ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل ، وهو راجع إلى الكذب ، فإن ذلك في معنى الإذاية للرسول عليه الصلاة والسلام ، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب ، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه : (لِمَ تُؤْذُونَنِي) ، وإذايتهم له كان بانتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحاتهم عليه ما ليس لهم اقتراحه ، (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) : جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه ، فرتبوا على علمهم أنه رسول الله ما لا يناسب العلم وهو الإذاية ، وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المضارع ، والمضارع هنا معناه المضي ، أي وقد علمتم ، كقوله : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) (١) ، أي قد علم ، (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ) (٢). وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل ، (فَلَمَّا زاغُوا) عن الحق ، (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ). قال الزمخشري : بأن منع ألطافه ، (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) : لا يلطف بهم ، لأنهم ليسوا من أهل اللطف. وقال غيره : أسند الزيغ إليهم ، ثم قال : (أَزاغَ اللهُ) كقوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (٣) ، وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ، بخلاف قوله : (ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا) (٤).
ولما ذكر شيئا من قصة موسى عليهالسلام مع بني إسرائيل ، ذكر أيضا شيئا من قصة عيسى عليهالسلام. وهناك قال : (يا قَوْمِ) لأنه من بني إسرائيل ، وهنا قال عيسى : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) من حيث لم يكن له فيهم أب ، وإن كانت أمه منهم. ومصدقا ومبشرا : حالان ، والعامل رسول ، أي مرسل ، ويأتي واسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من كتب الله الإلهية ، ولئن تأخر من النبي المذكور ، لأن التبشير بأنه رسول تصديق لرسالته. وروي أن الحواريين قالوا : يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال : «نعم ، أمة أحمد صلىاللهعليهوسلم ، حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله
__________________
(١) سورة النور : ٢٤ / ٦٤.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٤٤.
(٣) سورة الحشر : ٥٩ / ١٩.
(٤) سورة التوبة : ٩ / ١١٨.