(وَوَضَعَ الْمِيزانَ) جملة ليس فيها معنى القول. والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد ، وأما مالا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه.
ولما كانت التسوية مطلوبة جدا ، أمر الله تعالى فقال : (وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ). وقرأ الجمهور : (وَلا تُخْسِرُوا) ، من أخسر : أي أفسد ونقص ، كقوله : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (١) ؛ أي ينقصون. وبلال بن أبي بردة وزيد بن علي : تخسر بفتح التاء ، يقال : خسر يخسر ، وأخسر يخسر بمعنى واحد ، كجبر وأجبر. وحكى ابن جني وصاحب اللوامح ، عن بلال : فتح التاء والسين مضارع خسر بكسر السين ، وخرجها الزمخشري على أن يكون التقدير : في الميزان ، فحذف الجار ونصب ، ولا يحتاج إلى هذا التخريج. ألا ترى أن خسر جاء متعديا كقوله تعالى : (خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) (٢) ، و (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) (٣)؟ وقرىء أيضا : تخسروا ، بفتح التاء وضم السين. لما منع من الزيادة ، وهي الطغيان ، نهى عن الخسران الذي هو نقصان ، وكرر لفظ الميزان ، تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه.
ولما ذكر السماء ، ذكر مقابلتها فقال : (وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) : أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها. وقرأ الجمهور : والأرض بالنصب ؛ وأبو السمال : بالرفع. والأنام ، قال ابن عباس : بنو آدم فقط. وقال أيضا هو وقتادة وابن زيد والشعبي : الحيوان كله. وقال الحسن : الثقلان ، الجن والإنس. (فِيها فاكِهَةٌ) : ضروب مما يتفكه به. وبدأ بقوله : (فاكِهَةٌ) ، إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى ، ونكر لفظها ، لأن الانتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها. ثم ثنى بالنخل ، فذكر الأصل ولم يذكر ثمرتها ، وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر. ثم أتى ثالثا بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم ، وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق متشعبة على ساقه ، ووصفه بقوله : (ذُو الْعَصْفِ) تنبيها على إنعامه عليهم بما يقوتهم من الحب ، ويقوت بهائمهم من ورقه الذي هو التبن. وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم ، وبينهما النخل والحب ، ليحصل ما به يتفكه ، وما به يتقوت ، وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة. وذكر النخل باسمها ، والفاكهة دون شجرها ، لعظم المنفعة بالنخل من
__________________
(١) سورة المطففين : ٨٣ / ٣.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٩ ـ ٥٣ ، وسورة هود : ١١ / ٢١ ، وسورة المؤمنون : ٢٣ / ١٠٣ ، وسورة الزمر : ٣٩ / ١٥.
(٣) سورة الحج : ٢٢ / ١١.