٤ ـ الزراعة
التنقل من حالة البداوة إلى الأرياف خطوة محمودة نحو الحضارة بل إن الأرياف من مسهلات المعيشة في المدن والتعود أو التقرب إلى حياتها. ولولاها لضاقت بالناس احتياجاتهم المدنية فهي من مقومات الحضارة إلا أن البداوة في حركتها إلى الأرياف تقلل من عجرفة البداوة أو وحشتها ، والزراعة من أهل وسائل الأرياف في معايشها وحياتها. ويغلب عليها التأثير على الحياة العامة. فهي أصل الحياة الاجتماعية. وبذلك تكون قد قلّلت من الخشونة لما توفر لها من رزق من طريقه المشروع ... فارتبطت بأرض ، أو أنها عاشت في نطاق معين مهما كانت رقعته واسعة. والأرض في وضعها تلهم الحياة الاجتماعية والفردية. ونرى الحياة الزراعية أقرب للبداوة فلا ينفر منها البدوي. وإنما توافق مألوفه وتلتئم نوعا وحياته.
يبذل البدو جهودا جبّارة ومخاطرات للحصول على العيش ولا يكون إلا بعناء وشظف. يجتزي بالقليل عن الكثير. وفي ميله إلى الأرياف يحصل على ما يسد حاجته ، ويزيد بما يزرعه دخله أو ما تنتجه أرضه ، أما ما يربيه من نعم وشاء مما هو صالح لنفعه. فيقوم بالإنتاج النباتي والحيواني. وحاجة المدن إليه تسهل الأمر ، وتدعو إلى تبادل المنافع لقوام هذه الحياة. وتكون علاقته بالمجتمع كبيرة ومتصلة اتصالا وثيقا.
كان يترقب الفرصة فتهيأت له ، واغتنم وجود خلل في الأرياف أو اختلالا في وضعها ، أو أنه كان عن تدافع ونضال حتى ربح المعركة ، فحل محل مناوئه ، وصار يتفق مع هذا أو ذاك لبقائه وبقاء من يستعين به. وربما استعان به الضعيف فأفسح له المجال. وحوادث كثيرة مشاهدة من جوائح وطواعين أو حروب طاحنة تدعو إلى الجلاء. وحالات تاريخية عديدة أدت إلى هذا التنقل والتحول حتى اكتسب صفة أهل الأرياف. ولا يتأتى له بسهولة أن يسلك هذه الحياة ، ويراعي تلك المعيشة. وربما طال التدافع جيلا أو جيلين ليألف تلك الحياة ، أو يتقرب منها.