أَيْدِينا) و (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ). فإن قلت : فما معنى قوله (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ)؟ قلت : الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم ، واستنكف منه أنه سجود لمخلوق ، فذهب بنفسه ، وتكبر أن يكون سجوده لغير الخالق ، وانضم إلى ذلك أنّ آدم مخلوق من طين وهو مخلوق من نار. ورأى للنار فضلا على الطين فاستعظم أن يسجد لمخلوق مع فضله عليه في المنصب ، وزلّ عنه أنّ الله سبحانه حين أمر به أعزّ عباده عليه (١) وأقربهم منه زلفى وهم الملائكة ، وهم أحق بأن يذهبوا بأنفسهم عن التواضع للبشر الضئيل ، ويستنكفوا من السجود له من غيرهم ، ثم لم يفعلوا وتبعوا امر الله وجعلوه قدّام أعينهم ، ولم يلتفتوا إلى التفاوت بين الساجد والمسجود له ، تعظيما لأمر ربهم وإجلالا لخطابه : كان هو مع انحطاطه عن مراتبهم حرى بأن يقتدى بهم ويقتفى أثرهم ، ويعلم أنهم في السجود لمن هو دونهم بأمر الله ، أو غل في عبادته منهم في السجود له ، لما فيه من طرح الكبرياء وخفض الجناح ، فقيل له : ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدىّ ، أى : ما منعك من السجود لشيء هو كما تقول مخلوق خلفته بيدي ـ لا شكّ في كونه مخلوقا ـ امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة ، فذكر له ما تركه من السجود مع ذكر العلة التي تشبث بها في تركه ، وقيل له : لم تركته مع وجود هذه العلة ، وقد أمرك الله به ، يعنى : كان عليك أن تعتبر أمر الله ولا تعتبر هذه العلة ، ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم فيمتنع اعتبارا لسقوطه ، فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى علىّ سقوطه (٢) ، يريد : هلا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت
__________________
(١) قوله «حين أمر به أعز عباده» مبنى على مذهب المعتزلة : أن الملك أفضل من البشر. وعند أهل السنة : البشر أفضل من الملك. (ع)
(٢) قال محمود : «لما كان ذو اليدين يباشر أكثر أعماله بيديه : غلب العمل باليدين على سائر الأعمال التي تباشر بغير اليدين ، حتى قيل في عمل القلب : هذا مما عملت يداك. قال ومعناه أن الوجه الذي استنكر له إبليس السجود لآدم واستنكف بسببه : أنه سجود لمخلوق ، مع أنه دون الساجد ، لأن آدم من طين ، وإبليس من نار ، فرأى للنار فضلا على الطين ، وزل عنه أن الله سبحانه حين أمر أعز عباده عليه وأقربهم منه وهم الملائكة أن يسجدوا لهذا البشر : لم يمتنعوا ولم يذهبوا بأنفسهم إلى التكبر ، مع انحطاطه عن مراتبهم ، فقيل له : ما منعك أن تسجد لهذا الذي هو مخلوق بيدي كما وقع لك ، مع أنه لا شك أن في ذلك امتثالا لأمرى وإعظاما لخطابى كما فعلت الملائكة ، فذكر له العلة التي منعته من السجود ، وقيل له : ما حملك على اعتبار هذه العلة دون اعتبار أمرى ، ومثاله : أن يأمر الملك وزيره أن يزور بعض سقاط الحشم ، فيمتنع اعتبارا لسقوطه. فيقول له : ما منعك أن تتواضع لمن لا يخفى على سقوطه ، يريد : علا اعتبرت أمرى وخطابي وتركت اعتبار سقوطه ، انتهى المقصود من الآية بعد تطويل وإطناب وإكثار وإسهاب. قال أحمد : إنما أطال القول هنا ليفر من معتقدين لأهل السنة تشتمل عليهما هذه الآية : أحدهما : أن اليدين من صفات الذات أثبتهما السمع ، هذا مذهب أبى الحسن والقاضي ، بعد إبطالهما حمل اليدين على القدرة ، فان قدرة الله تعالى واحدة ، واليدان مذكورتان بصيغة التثنية ، وأبطلا حملهما على النعمة بأن نعم الله