اعتبار سقوطه ، وفيه : أنى خلقته بيدي ، فأنا أعلم بحاله ، ومع ذلك أمرت الملائكة بأن يسجدوا له لداعي حكمة دعاني إليه : من إنعام عليه بالتكرمة السنية وابتلاء للملائكة ، فمن أنت حتى يصرفك عن السجود له ، ما لم يصرفني عن الأمر بالسجود له. وقيل : معنى (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) لما خلقت بغير واسطة. وقرئ : بيدىّ ، كما قرئ : بمصرخىّ. وقرئ: بيدي ، على التوحيد (مِنَ الْعالِينَ) ممن علوت وفقت ، فأجاب بأنه من العالين حيث (قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) وقيل : استكبرت الآن ، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين. ومعنى الهمزة : التقرير. وقرئ : استكبرت بحذف حرف الاستفهام ، لأنّ أم تدل عليه. أو بمعنى الإخبار. هذا على سبيل الأولى ، أى : لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له ، لأنه مخلوق مثلي ، فكيف أسجد لمن هو دوني لأنه من طين والنار تغلب الطين وتأكله ، وقد جرت الجملة الثانية من الأولى وهي (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ) مجرى المعطوف عطف البيان من المعطوف عليه في البيان والإيضاح.
(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ)(٧٨)
(مِنْها) من الجنة ، وقيل : من السماوات. وقيل : من الخلقة التي أنت فيها ، لأنه كان يفتخر بخلقته فغير الله خلقته ، فاسودّ بعد ما كان أبيض وقبح بعد ما كان حسنا ، وأظلم بعد ما كان نورانيا. والرجيم : المرجوم. ومعناه : المطرود ، كما قيل له : المدحور والملعون ، لأنّ من طرد رمى بالحجارة على أثره. والرجم : الرمي بالحجارة. أو لأنّ الشياطين يرجمون بالشهب.
__________________
لا تحصى ، فكيف تحصر بالتثنية. وغيرهما من أهل السنة كامام الحرمين وغيره يجوز حملهما على القدرة والنعمة ، ويجيب عما ذكراه بأن المراد نعمة الدنيا والآخرة ، وهذا مما يحقق تفضيله على إبليس ، إذ لم يخلق إبليس لنعمة الآخرة ، وعلى أن المراد القدرة ، فالتثنية تعظيم ، ومثل ذلك يوجد في اللغة كثيرا. المعتقد الثاني : أن النبي أفضل من الملك ، والزمخشري شديد العصبية في هذه المسألة والإنكار على من قال بذلك من أهل السنة ، لا جرم أنه أجرم في بسط كلامه على آدم عليه السلام ، فمثل قصته في انحطاط مرتبته على زعمه عن مرتبة الملائكة بقول الملك لوزيره. زر بعض سقاط الحشم ، فجعل سقاط حشم الملك مثالا لآدم الذي هو عنصر الأنبياء عليهم السلام ، وأقام لإبليس عذره وصوب اعتقاده. أنه أفضل من آدم لكونه من نار وآدم من طين ، وإنما غلطه من جهة أخرى. وهو أنه لم يقس نفسه على الملائكة إذ سجدوا له ، على علمهم أنه بالنسبة إليهم محطوط الرتبة ساقط المنزلة ، وجعل قوله تعالى (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) إنما ذكر تقريرا للعلة التي منعت إبليس من السجود ، وهو كونه دونه ، وهذا ـ نسأل الله العصمة ـ المراد منه ضد ما فهم الزمخشري ، وإنما ذكر ذلك تعظيما لمعصية إبليس ، إذ امتنع من تعظيم من عظمه الله إذ خلقه بيده ، وذلك تعظيم لآدم لا تحقير منه. ويدل عليه الحديث الوارد في الشفاعة ، إذ يقول له الناس عند ما يقصدونه فيها : أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ، فإنما يذكرون ذلك في سياق تعديد كراماته وخصائصه ، لا فيما يحط منه ، معاذ الله وإياه نسأل أن يعصمنا من مهاوي الهوى ومهالكه ، وأن يرشدنا إلى سبيل الحق ومسالكه ، إنه ولى التوفيق ، وبالاجابة حقيق.