ومنها أنّ كل واحد منهما يغيب الآخر إذا طرأ عليه ، فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار. ومنها : أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا ، فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القادر على عقاب المصرين (الْغَفَّارُ) لذنوب التائبين (١). أو الغالب الذي يقدر على أن يعاجلهم بالعقوبة وهو يحلم عنهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى ، فسمى الحلم عنهم : مغفرة.
(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ)(٦)
فإن قلت : ما وجه قوله (ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) وما يعطيه من معنى التراخي؟ قلت : هما آيتان (٢) من جملة الآيات التي عدّدها دالا على وحدانيته وقدرته : تشعيب هذا الخلق الفائت
__________________
ـ أنه من الأولين. ويجوز أنه منسوب للأخير ، لأنه يشبهه ، وللام للتوقيت ، وللقواضب : السيوف النواطع. والمهرية : الخيل المنسوبة لمهر بن حيدان أبى قبيلة من اليمن ، خيلها أنجب الخيل. والعوج : جمع عوجاء نوع جيد منها أيضا. والحالان : ارتفاع الأرض وانخفاضها. والمجهل : الموضع الذي يجهله المسافر. والقذف ـ كسبب ـ : الذي يقذف ما فيه فلا أحد فيه. والمطرد : السراب المستوى ، شبه بالخز المنسوج في الاستواء والبياض. والثنايا : العقبات. والحقو : الخصر والإزار ، وشده عليه استعارة لجانب العقبة ، وحواشي السراب : جوانبه. والملاء بالضم والمد : اسم جمع ملاءة وهي الجلباب. والتفراج : الباب الصغير والثوب من الديباج. والرهاة ـ جمع رهو ـ : المكان المرتفع ، ويطلق على المنخفض أيضا. وقيل : اسم موضع. والموت : القفر. والركض : ضرب الدابة بالرجل والضرب مطلقا ، وهو هنا مجاز على طريق التصريحية. والأعراف : جمع عرف. وعرف الديك والفرس : أعلى شعر العنق وأعرف البحر والسيل : إذا تراكم موجه وارتفع كالأعراف ، والأزهر : السحاب الأبيض والماء الأبيض ، وهو الأنسب بكونه تحت الريح ، لأن ظاهر الأول يخالف قوله تعالى (أَقَلَّتْ سَحاباً) والمنتوج : الذي تنتجه الريح وتسوقه حتى يقطر ، يقول : ورب راكد من الشمس ، يعنى السراب شديد الحر أو السير ، نصبت مستقبلا لوقته سيوف قومي مع الخيل الجياد إذا تجاذب المنخفض والمرتفع من الأرض القفرة أطراف الآل وهو السراب ، وشبه إحاطة جوانبه وتراكمه في جوانب العقبة بلىّ الجلباب في أبواب التفاريج ، وتلوى : يحتمل أنه جواب ذا وأنه صفة لمطرد وجوابها ، دل عليه ما قبلها وأسند اللى للثنايا لأنها سبب الالتواء ، ولى الملا : مفعول مطلق ، وأعراف : خبر كأنه ، والرهاة : جملة حالية ، وفاعل يركض إما ضمير الآل ، أو ضمير الرهاة ، لأنهما كأنهما يتضاربان. وروى : تطرده ، وفاعله ضمير الرهاة جزما ، لأن الآل هو المطرود ، وبيت الكشاف : يلوى الثنايا بأحقيها. والحقو : جمعه أحق ، وأصل وزنه : أفعل.
(١) قال محمود : «أى لذنوب التائبين» قال أحمد : الحق أنه تعالى غفار للتائبين ولمن يشاء من المصرين على ما دون الشرك وقنوطهم من رحمة الله تعالى. ولقد قيد الزمخشري الآية بما ترى.
(٢) قال محمود : «فان قلت : ما وجه العطف بثم في قوله (ثُمَّ جَعَلَ) وأجاب بأتهما آيتان ... الخ» قال أحمد إنما منعه من حمل ثم على التراخي في الوجود أنها وقعت بين خلق الذرية من آدم ، وخلق حواء منه ، وهو متقدم ـ