ويروحوا بالسلام على حملة العرش تفضيلا لهم على سائر الملائكة (١). وقيل : خلق الله العرش من جوهرة خضراء ، وبين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام. وقيل حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة ، يطوفون به مهللين مكبرين ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم رافعين أصواتهم بالتهليل والتكبير ، ومن ورائهم مائه ألف صف قد وضعوا الأيمان على الشمائل ، ما منهم أحد إلا وهو يسبح بما لا يسبح به الآخر. وقرأ ابن عباس : العرش بضم العين. فإن قلت : ما فائدة قوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ولا يخفى على أحد أنّ حملة العرش ومن حوله من الملائكة الذين يسبحون بحمد ربهم مؤمنون؟ (٢) قلت : فائدته إظهار شرف الإيمان وفضله ، والترغيب فيه كما وصف الأنبياء في غير موضع من كتابه بالصلاح لذلك ، وكما عقب أعمال الخير بقوله تعالى (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) فأبان بذلك فضل الإيمان. وفائدة أخرى : وهي التنبيه على أن الأمر لو كان كما تقول المجسمة (٣) ، لكان حملة العرش ومن حوله مشاهدين معاينين ، ولما وصفوا بالإيمان ، لأنه إنما يوصف بالإيمان : الغائب ، فلما وصفوا به على سبيل الثناء عليهم ، علم أنّ إيمانهم وإيمان من في الأرض وكل من غاب عن ذلك المقام سواء : في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر والاستدلال لا غير ، إلا هذا ، وأنه لا طريق إلى معرفته إلا هذا ، وأنه منزه عن صفات الأجرام. وقد روعي التناسب في قوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) كأنه قيل : ويؤمنون ويستغفرون لمن في مثل حالهم وصفتهم. وفيه تنبيه على أنّ الاشتراك في الإيمان يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة ، وأبعثه على إمحاض الشفقة وإن تفاوتت الأجناس وتباعدت الأماكن. فإنه
__________________
(١) لم أجده.
(٢) قال محمود : «إن قلت. ما قائدة قوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) ولا يخفى على أحد أن حملة العرش ومن حوله من الملائكة مؤمنون بالله تعالى ... الخ» قال أحمد : كلام حسن إلا استدلاله بقوله (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) على أنهم ليسوا مشاهدين ، فهذا لا يدل ، لأن الايمان هو التصديق غير مشروط فيه غيبة المصدق به ، بدليل صحة إطلاق الايمان بالآيات مع أنها مشاهدة ، كانشقاق القمر وقلب العصاحية. وإنما نقب الزمخشري بهذا التكلف عما في قلبه من مرض ، لكنه طاح بعيدا عن الغرض ، فقرر أن حملة العرش غير مشاهدين ، بدليل قوله تعالى (وَيُؤْمِنُونَ) لأن معنى الايمان عنده التصديق بالغائب. ثم يأخذ من كونهم غير مشاهدين : أن الباري عز وجل لو صحت رؤيته لرأوه ، فحيث لم يروه لزم أن تكون رؤيته تعالى مما لا يصححه العقل ، وقد أبطلنا ما ادعاه من أن الايمان مستلزم عدم الرؤية ، ولو سلمناه فلا نسلم أنه يلزم من كون حملة العرش غير مشاهدين له تعالى أن تكون رؤيته غير صحيحة ، وقوله : ولو كانت صحيحة لرأوه : شرطية عقيمة الانتاج ، لأن الرؤية عبارة عن إدراك : يخلق الله تعالى هذا الإدراك لحملة العرش ، إلا أن يذهب بالزمخشرى الوهم إلى أن مصححى الرؤية يعتقدون الجسمية والاستقرار على العرش ، فيلزمهم رؤية حملة العرش له تعالى الله عن ذلك ، وحاشى أهل السنة ومصححى الرؤية من ذلك.
(٣) قوله «كما تقول المجسمة» يريد أهل السنة ، لأنهم لما جوزوا رؤيته تعالى معاينة : لزمهم القول بأنه تعالى جسم ، ولكن الرؤية لا تستلزم الجسمية ، خلافا للمعتزلة ، كما بين في علم التوحيد. (ع)