لا تجانس بين ملك وإنسان ، ولا بين سماوي وأرضى قط ، ثم لما جاء جامع الإيمان جاء معه التجانس الكلى والتناسب الحقيقي ، حتى استغفر من حول العرش لمن فوق الأرض. قال الله تعالى (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ). أى يقولون (رَبَّنا) وهذا المضمر يحتمل أن يكون بيانا ليستغفرون مرفوع المحل مثله ، وأن يكون حالا. فإن قلت : تعالى الله عن المكان ، فكيف صحّ أن يقال : وسع كل شيء؟ قلت : الرحمة والعلم هما اللذان وسعا كل شيء في المعنى. والأصل : وسع كل شيء رحمتك وعلمك ، ولكن أزيل الكلام عن أصله بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، وأخرجا منصوبين على التمييز للإغراق في وصفه بالرحمة والعلم ، كأن ذاته رحمة وعلم واسعان كل شيء. فإن قلت : قد ذكر الرحمة والعلم فوجب أن يكون ما بعد الفاء مشتملا على حديثهما جميعا ، وما ذكر إلا الغفران وحده؟ قلت : معناه فاغفر للذين علمت منهم التسوية واتباع سبيلك (١). وسبيل الله : سبيل الحق التي نهجها (٢) لعباده ودعا إليها (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أى الملك الذي لا يغلب : وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا إلا بداعي الحكمة وموجب حكمتك أن تفي بوعدك (وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أى العقوبات. أو جزاء السيئات. فحذف المضاف على أن السيئات هي الصغائر أو الكبائر المتوب عنها. والوقاية منها : التكفير أو قبول التوبة : فإن قلت : ما الفائدة في استغفارهم لهم وهم تائبون صالحون موعودون المغفرة والله لا يخلف الميعاد؟ قلت : هذا بمنزلة الشفاعة ، وفائدته زيادة الكرامة والثواب. وقرئ : جنة عدن. وصلح ، بضم اللام ، والفتح أفصح. يقال : صلح فهو صالح ، وصلح فهو صليح ، وذريتهم.
__________________
(١) قال محمود : «فان قلت قد ذكر أولا الرحمة والعلم ، ثم ذكر ما توجبه الرحمة وهو الغفران ، فأين موجب العلم؟ وأجاب بأن معناه فاغفر للذين علمت منهم التوبة واتباع سبيلك ... الخ» قال أحمد : كلامه هاهنا محشو بأنواع الاعتزال : منها اعتقاد وجوب مراعاة المصلحة ودواعي الحكم على الله تعالى. ومنها اعتقاد أن اجتناب الكبائر يكفر الصغائر وجوبا وإن لم يكن توبة. ومنها اعتقاد امتناع غفران الله تعالى للكبائر التي لم يتب عنها. ومنها اعتقاد وجوب قبول التوبة على الله تعالى. ومنها جحد الشفاعة ، واعتقاد أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه مراعاة المصلحة ، وأنه يجوز أن يعذب على الصغائر وإن اجتنب الكبائر ، وأنه يجوز أن يغفر الكبائر ما عدا الشرك وإن لم يتب منها ، وأن قبول التوبة بفضله ورحمته ، لا بالوجوب عليه ، وأنها تنال أهل الكبائر المصرين من الموحدين ، فهذه جواهر خمسة نسأل الله تعالى أن يقلد عقائل عقائدنا بها إلى الخاتمة ، وأن لا يحرمنا ألطافه ومراحمه آمين. وجميع ما يحتاج إلى تزييفه مما ذكره على قواعد الاعتزال في هذا الموضع قد تقدم ، غير أنه جدد هاهنا قوله : إن فائدة الاستغفار كفائدة الشفاعة ، وذلك مزيد الكرامة لا غير ، يريد : أن المغفرة للتائب واجبة على الله فلا تسئل ، وهذا الذي قاله مما يجعل لنفسه فيه الفضيحة ، زادت على بطلانه هذه الآية بالألسن الفصيحة ، كيف يجعل المسئول مزيدة الكرامة لا غير. ونص الآية : فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم ، فهي ناطقة بأنهم يسألون من الله تعالى المغفرة للتائب ووقاية عذاب الجحيم ، وهو الذي أنكر الزمخشري كونه مسؤلا.
(٢) قوله «التي نهجها» أى : أبانها وأوضحها. أفاده الصحاح. (ع)