(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(١٤)
الإيمان : هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس. والإسلام : الدخول في السلم. والخروج من أن يكون حربا للمؤمنين بإظهار الشهادتين. ألا ترى إلى قوله تعالى (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام ، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان. فإن قلت : ما وجه قوله تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) والذي يقتضيه نظم الكلام أن يقال : قل لا تقولوا آمنا ، ولكن قولوا أسلمنا. أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت : أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلا ، ودفع ما انتحلوه (١) ، فقيل : قل لم تؤمنوا. وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه ، فلم يقل : كذبتم ، ووضع (لَمْ تُؤْمِنُوا) الذي هو نفى ما ادعوا إثباته موضعه ، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) تعريضا بأن هؤلاء هم الكاذبون ، ورب تعريض لا يقاومه التصريح ، واستغنى بالجملة التي هي (لَمْ تُؤْمِنُوا) عن أن يقال : لا تقولوا آمنا ، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهى عن القول بالإيمان ، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، ليكون خارجا مخرج الزعم والدعوى ، كما كان قولهم (آمَنَّا) كذلك ، ولو قيل : ولكن أسلمتم ، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به. فإن قلت : قوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) بعد قوله تعالى (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) يشبه التكرير من غير استقلال بفائدة متجددة. قلت : ليس كذلك ، فإن فائدة قوله (لَمْ تُؤْمِنُوا) هو تكذيب دعواهم ، وقوله (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) توقيت لما أمروا به أن يقولوه ، كأنه قيل لهم (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) حين
__________________
(١) قال محمود : «وجه هذا النظم تكذيب دعواهم أولا الخ» قال أحمد : ونظير هذا النظم ومراعاة هذه اللطيفة قوله تعالى (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ) ثم قال : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) ولما كان مؤدى هذا تكذيب الله تعالى لهم في شهادتهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم قدم على ذلك مقدمة تلخص المقصود وتخلصه من حوادث الوهم ونوائبه ، فقال بين الكلامين ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ) ، ثم قال بعد ذلك : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) فتلخص من ذلك أنهم كذبوا فيما ادعوه من شهادة قلوبهم الحق ، لأن ذلك حقيقة الشهادة ، لا أنهم كذبوا في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من الله وكان المخلص من ذلك قوله جل وعلا (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ).