لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم ، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في (قُولُوا) وما في (لَمَّا) من معنى التوقع : دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد (لا يَلِتْكُمْ) لا ينقصكم ولا يظلمكم. يقال : ألته السلطان حقه أشدّ الألت ، وهي لغة غطفان. ولغة أسد وأهل الحجاز : لاته ليتا. وحكى الأصمعى عن أمّ هشام السلولية أنها قالت : الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ، ولا تصمه الأصوات (١). وقرئ باللغتين : لا يلتكم ، ولا يألتكم. ونحوه في المعنى (فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً). ومعنى طاعة الله ورسوله : أن يتوبوا عما كانوا عليه من النفاق ويعقدوا قلوبهم على الإيمان ويعملوا بمقتضياته ، فان فعلوا ذلك تقبل الله توبتهم ، ووهب لهم مغفرته ، وأنعم عليهم بجزيل ثوابه. وعن ابن عباس رضى الله عنهما أنّ نفرا من بنى أسد قدموا المدينة في سنة جدبة ، فأظهروا الشهادة ، وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات ، وأغلوا أسعارها ، وهم يغدون ويروحون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، وجئناك بالأثقال والذراري ، يريدون الصدقة ويمنون عليه ، فنزلت.
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)(١٥)
ارتاب : مطاوع را به إذا أوقعه في الشك مع التهمة. والمعنى : أنهم آمنوا ثم لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به ، ولا اتهام لمن صدّقوه واعترفوا بأنّ الحق منه. فإن قلت : ما معنى ثم هاهنا وهي التراخي وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت : الجواب على طريقين ، أحدهما أنّ من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان أو بعض المضلين بعد ثلج الصدر فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه ، أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك ثم يستمرّ على ذلك راكبا رأسه لا يطلب له مخرجا ، فوصف المؤمنون حقا بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله (ثُمَّ اسْتَقامُوا) والثاني : أنّ الإيقان وزوال الريب لما كان ملاك الإيمان أفرد بالذكر بعد تقدّم الايمان ، تنبيها على مكانه ، وعطف على الإيمان بكلمة التراخي إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضا جديدا (وَجاهَدُوا) يجوز أن يكون المجاهد منويا وهو العدوّ المحارب أو الشيطان أو الهوى ، وأن يكون جاهد مبالغة في جهد. ويجوز أن يراد بالمجاهدة بالنفس : الغزو ، وأن يتناول العبادات بأجمعها ، وبالمجاهدة بالمال : نحو
__________________
(١) قوله «ولا تصمه الأصوات» إن كان من الوصم فالمعنى : لا تصدعه الأصوات ولا تعيبه ، وإن كان من الصمم فالمعنى : لا تجد أصم. وفي الصحاح «الوصم» : الصدع والعيب. وفيه «أصممته» : وجدته أصم. (ع)