بذكره ما ذهبت إليه من تمييز من أرسل على صراط مستقيم عن غيره ممن ليس على صفته ، وإنما الغرض وصفه ووصف ما جاء به من الشريعة ، فجمع بين الوصفين في نظام واحد ، كأنه قال : إنك لمن المرسلين الثابتين على طريق ثابت ، وأيضا فإن التنكير فيه دل على أنه أرسل من بين الصراط المستقيمة على صراط مستقيم لا يكتنه وصفه (١) ، وقرئ (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ، وبالنصب على أعنى ، وبالجرّ على البدل من القرآن (قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) قوما غير منذر آباؤهم على الوصف (٢) ونحوه قوله تعالى (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) ، (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ). وقد فسر (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) على إثبات الإنذار. ووجه ذلك أن تجعل ما مصدرية ، لتنذر قوما إنذار آبائهم أو موصولة ومنصوبة على المفعول الثاني لتنذر (٣) قوما ما أنذره آباؤهم من العذاب ، كقوله تعالى (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) فإن قلت : أى فرق بين تعلقي قوله (فَهُمْ غافِلُونَ) على التفسيرين؟ قلت : هو على الأوّل متعلق بالنفي ، أى : لم ينذروا فهم غافلون ، على أن عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم ، وعلى الثاني بقوله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لتنذر ، كما تقول : أرسلتك إلى فلان لتنذره ، فإنه غافل. أو فهو غافل. فإن قلت : كيف يكونون منذرين غير منذرين لمناقضة هذا ما في الآي الأخر؟ قلت : لا مناقضة : لأنّ الآي في نفى إنذارهم لا في نفى إنذار آبائهم ، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل وكانت النذارة فيهم (٤) فإن قلت : ففي أحد التفسيرين أنّ آباءهم لم ينذروا وهو الظاهر ، فما تصنع به؟ قلت :
__________________
(١) قال محمود : «إن قلت ما سر قوله على صراط مستقيم وقد علم بكونه من المرسلين أنه كذلك؟ وأجاب بأن الغرض وصفه ووصف ما جاء به ، فجاء بالوصفين في نظام واحد ، فكأنه قال : إنك لمن المرسلين على طريق ثابت. قال : وأيضا ففي تنكير الصراط أنه مخصوص من بين الصراط المستقيمة بصراط لا يكتنه وصفه. انتهى كلامه» قال أحمد : قد تقدم في مواضع أن التنكير قد يفيد تفخيما وتعظيما وهذا منه. (٢) قال محمود : إنه على الوصف كقوله (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ) قال : وقد فسر (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) على إثبات الانذار على أن ما مصدرية أو موصولة. قال : والفرق بين موقع الفاء على التفسيرين أنها على الأول متعلقة بالنفي معنى جوابا له ، والمعنى أن نفى إنذارهم هو السبب في غفلتهم ، وعلى الثاني بقوله (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) لتنذر ، كما تقول : أرسلناك إلى فلان لتذره ، فانه غافل أو فهو غافل انتهى» قال أحمد : يعنى أنها على التفسير الثاني تفهم أن غفلتهم سبب في إنذارهم.
(٣) قوله «على المفعول الثاني لتنذر» لعل بعده سقطا تقديره : أى لتنذر. (ع)
(٤) قال محمود : فان قلت كيف يكونون منذرين على هذا التفسير غير منذرين في قوله (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) وأجاب بأن الآية لنفى إنذارهم لا لنفى إنذار آبائهم ، وآباؤهم القدماء من ولد إسماعيل ، وقد كانت النذارة فيهم. قال : فما تصنع بأحد التفسيرين الذي مقتضاه أن آباءهم لم ينذروا وهو التفسير الأول في هذه الآية مع التفسير الثاني ، ومقتضاء أنهم أنذروا ، وأجاب بأن آباءهم الأباعد هم المنذرون لا آباؤهم الأدنون. قال : ثم مثل تصميمهم على للكفر وأنهم لا يرعوون ولا يرجعون بأن جعلهم كالمغلولين لمقمحين في أنهم لا يلتفتون إلى الحق ولا يطأطئون رؤسهم له ، وكالحاصلين بين سدين لا يبصرون ما قدامهم ولا ما خلفهم قال والضمير للأغلال لأن طوق ـ